ترتبط قيمة العدالة بالفطرة الإنسانية، وللفجوة بين مضمونها الحقيقي والمزيف في إطار الثقافتين العربية والغربية أسبابُ متعددة وفقاً للآتي: أولاً: مجتمعاتنا دائماً ما تهرب من مواجهة مشاكلها بنفسها، ودائماً ما تخلق مبرراً لفشلها وتدفع به على كتف الآخر، و «الشماعات» هنا كثيرة، فعندما تضيع فلسطين نقول إن السبب الغرب. في مقابل ذلك لم نوجه انتقاداً واحداً لأنفسنا، وعندما تحاول مجتمعات أخرى تحافظ على خصوصيتها في سبيل الحفاظ على أمن مواطنيها، التي ليست بالضرورة مصانةً في مجتمعاتنا، نقول إن الإسلام يُحارب في الغرب، وأصبحنا نبلور فشلنا في صنع قضايا كبرى لنهرب من الحقيقة ولا نواجهها، ونسير على نهج العقيد القذافي الذي كان أعلن الجهاد على سويسرا، لأن إحدى محاكمها دانت أحد أبنائه بتهمة التعدي على خادم، وبعدها بسنة تحولت دعوته لتكون بالفعل حرباً وتطهيراً ضد شعبه، باستخدام كل ما امتلك من قوة الطائرات والأسلحة الفتاكة في قتلهم، في منطق غريب لجرائم القرن الواحد والعشرين. ثانياً: قيمة العدالة نفسها ليس لها تطبيق يتسم بالنزاهة على أرض الواقع. فمثلاً الطريقة التي جاء بها القذافي إلى الحكم والتي يحكم بها الشعب الليبي، تدلل على أنه هو أول من اغتصب هذه القيمة، حتى وإن تمسَّحَ بالمظاهر الدينية، فمثل هذه المنظومة التي يعيش فيها تخلق لديه قيماً مضادة لهذه المفاهيم، فمفهوم العدالة لديه ليس ما قامت به الحكومة السويسرية تجاه نجله، الذي لم يعاقبه القانون عن جرم في بلده، لكونه هو القانون نفسه فكيف يعاقَب؟! فهذه المجتمعات من منظوره هي مجتمعات كافرة علمانية ما دامت لا تدين بالإسلام، ومن ثم هي لا تطبق مفهوم العدالة، كما في معتقداته ومنظوره الضيق للحقيقة. فهو مسلم ويصلي ويؤم رؤساء الدول في الصلاة، وبالتالي هو يحقق القيمة حتى لو كان في شكل طقوسي. ظلَّ على مدار الأربعين عاماً حاكماً لليبيا، ولم يُسأل مرة لماذا عمل ذلك وترك ذاك، وبالتالي عندما ثار الثوار عليه، كان ردُّ فعله يتوافق مع هذه المركزية في كونه هو ممثل العدالة، وبالتالي لديه المبرر للقيام بجرائم التطهير العرقي مادام ذلك يتوافق مع معتقداته. ثالثاً: الدين الإسلامي والديانات الأخرى كقيم وثقافة لم تتحقق في مجتمعاتنا، بل أصبحت، بمثل هذا الأسلوب الذرائعي الاستغلالي، مدخلاً للتبعيد من جوهرها والسير به في طرق متشعبة مظلمة ليس لها أدنى علاقة بالأديان التى كرمت بني الإنسان وحثت على تكريمه، وأبجديات التكريم أن تتحقق العدالة، وألاّ يجور صاحب المال والسلطان على الضعيف. أليس يكفيه فقره وضعفه؟ وعندما يثور على هذا الواقع تُسخّر آليات القمع والقتل كافة، بما فيها الجيش الذي هدفه حماية الشعوب وليس كما يفعل القذافي الآن تجاه الليبيين بقتلهم بمدرعاته وطائراته. رابعاً: إذا كانت هذه الواقعة نادرة الحدوث، إلا أنها حتى لو حدثت مرة واحدة فهي قد تعكس ليس فقط رؤية من يحكم وثقافة النخبة، وإنما الثقافة المجتمعية نفسها التي تميل في معظمها إلى أن تتزين بمظاهر الدين وفي جوهرها تغش وتسرق وتغتصب حقوق الآخرين، ويصبح قانون المحسوبية ومن يدفع أكثر هو المتسيِّد بدءاً من الشارع وإشارات المرور، مروراً بالمصالح الحكومية، إلى بيع أملاك الشعوب لمن لا يستحقونها. ومن هنا، ليس من الغريب ان يثور عدد من الشعوب العربية بهذا الشكل الذي حدث، ونجح حتى الآن في إسقاط نظامين في خلال شهر واحد. فهذه الثورات هي بالأساس ضد عمليات الاستغفال التي كانت تنتهجها هذه النخب الحاكمة تجاه شعوبها، بمنطق أن الشعوب تمثِّل العبيد والحكام يمثلون الأسياد، ومن ثم استحلت هذه النخبة كلَّ فعل مُشين تجاهها، حتى لو اخترعت لنفسها منظوراً للعدالة تحت مسميات كبرى، كالجهاد ضد الكفرة ومحاربة الصهاينة والأميركان، ومقولات أخرى كبرى، كتهديد الأمن القومي ومصلحة الوطن... وكلها كانت بمثابة شماعات كبيرة تخفي وراءها واقعاً مؤلماً لانتهاك قيمة العدالة وانتهاك آدمية الإنسان. * كاتب مصري