يتقدم أشهر عملاء الاستخبارات البريطانية، «جيمس بوند» (الممثل دانيال كريغ)، إلى قاعة داكنة مرتدياً بذلة أنيقة. لا ينبس ببنت شفة، لكن صوت «رئيسته» المعروفة ب «سي» (الممثلة الشهيرة جودي دنش) يُسمع وهي تدعوه إلى أن يتخيّل نفسه إمرأة. ثم تُظهر الصورة بوند، الرجل الذي يُعرف بمغامراته العاطفية بمقدار شهرته كجاسوس في «خدمة صاحبة الجلالة»، وهو يتحوّل إمرأة جذابة بشعر أشقر طويل ترتدي فستاناً فاتناً. وبينما تتم عملية التحوّل هذه، تتلو «سي» (جميع قادة الاستخبارات الخارجية يُعرفون بهذا الحرف) أرقاماً وحقائق تُسلّط الضوء على «الواقع المزري» للنساء في بريطانيا. القضية، إذاً، ليست تكليفاً بمهمة سرية تقتضي من بوند أن يتنكر بزي إمرأة، بل هي جزء من حملة توعية تعمل من أجل تعزيز حقوق النساء في بريطانيا. تقف وراء هذا الشريط الدعائي ل «بوند» و«سي» جمعية «متساوون؟» (Equals؟) وقد أصدرته في مناسبة «اليوم العالمي للمرأة» محاولة إشراك الرجل في جهود المساواة مع المرأة من خلال توظيف شخصية، مثل «العميل 007»، ترمز إلى «الرجل الناجح»، على جبهتي استقطاب الجواسيس وإيقاع الفاتنات في غرامه. ولتسليط الضوء على مدى حاجة النساء في بريطانيا إلى المساعدة لتحسين أوضاعهن المزرية، كان لا بد من إيراد حزمة من «الحقائق» المثيرة ل «الشفقة» عن أوضاعهن، وهي المهمة التي تولتها «سي» عندما أخذت تتلوها واحدة تلو الأخرى على «بوند» خلال المشاهد التي تُظهر تحوّله من رجل إلى إمرأة. وخلال سنة واحدة، كما قالت جمعية «متساوون؟»، تُسجّل في بريطانيا 50 ألف حالة اغتصاب لنساء، وتتعرض 250 ألف إمرأة إمّا للاعتداء الجنسي أو العنف المنزلي أو الاتجار بهن أو تزويجهن رغماً عنهن، كما يتم قتل 26 إمرأة على يد أزواجهن أو أصدقائهن الحاليين أو السابقين، وتُسجّل 76 ألف حالة عنف منزلي في إنكلترا وويلز (من دون اسكتلندا وإرلندا الشمالية)، وتتلقى الشرطة 238 ألف شكوى عن اعتداءات ضد النساء، وتخسر 21 ألف إمرأة عملها «بسبب التمييز السلبي» ضدها نتيجة الحمل والولادة، ويخسر الاقتصاد البريطاني نتيجة كل ذلك العنف والتمييز ضد المرأة ما يُقدّر ب 40 بليون جنيه استرليني كل سنة. هذه الأرقام، الموثّقة بالطبع، لا بد من أن تُثير، ليس فقط الشفقة على أوضاع النساء في بريطانيا، بل أيضاً المخاوف على مستقبلها في مثل هذا المجتمع «المتقدم»، والمفترض أنه حقق منذ عقود طويلة المساواة بين النساء والرجال. والحقيقة أن النساء البريطانيات حققن على مدى القرن الماضي جزءاً أساسياً من حقوقهن في المساواة الكاملة مع الرجل، لكن ذلك لم يتم سوى من خلال عملية طويلة من حملات التوعية والنضال، وهي حملات ما زالت مستمرة حتى اليوم، وفق ما يظهر من الحملة التي تقوم بها حالياً مؤسسة «متساوون؟» (http://www.weareequals.org/). إيفيت كوبر، الوزيرة السابقة في الحكومة العمالية والوزيرة في «حكومة الظل» الحالية، ضمّت صوتها، قبل أيام، الى صوت المحذّرين من فقدان النساء البريطانيات المكاسب التي حققنها في البلاد على مدى القرن الماضي. فقد كتبت مقالة في مناسبة «يوم المرأة العالمي» قالت فيها: «طوال حياتي وأنا اعتبر أن من المفروغ منه أن تحصل النساء في كل عقد من الزمن على مزيد من الفرص ومزيد من المساواة، أكثر مما حصلن عليه في العقد الذي سبق. لكنني الآن أخشى أن هذا الأمر بات محل تهديد في بريطانيا». ثم أخذت تُعدد مآخذها على سياسات التقشف للحكومة الحالية – حكومة المحافظين والديموقراطيين الأحرار – معتبرة أنها تمثّل «اعتداء» على النساء وحقوقهن. وكتبت كوبر انها التقت أخيراً هتي باور وهي إمرأة طاعنة في السن (105 سنوات) لم يكن يحق لها الانتخاب عندما كانت في أيام صباها (لم تُمنح النساء حق الاقتراع أسوة بالرجال في بريطانيا سوى في عام 1928)، كما أنها عندما أنجبت ابنتها الأولى لم يكن في بريطانيا نظام للضمان الصحي تلتزم من خلاله الدولة بتأمين الطبابة لعامة الناس، كما لم يكن هناك نظام يمنح الأمهات حق التوقف موقتاً عن العمل للعناية بأطفالهن. ولم تشهد بتي إلاّ عندما صارت في الستين من عمرها قانوناً ينص على المساواة في الراتب بين النساء والرجال الذين يؤدون العمل نفسه. الأكيد أن الحكومة الحالية في بريطانيا تستهدف كل أطياف المجتمع – وليس النساء فقط – بسياساتها التقشفية لسد العجز في الموازنة، لكن كوبر استغلت على ما يبدو الأمر «انتقائياً» لتسليط الضوء على «الظلم» الذي تتعرض له المرأة على يد المحافظين مقارنة ب «الانجازات» التي نالتها على يد حكومات حزب العمال في الماضي. وبصرف النظر عن الاستغلال الحزبي من العمّال لمشاكل النساء في بريطانيا بهدف ضرب سياسات المحافظين، إلا أن الأرقام والحقائق التي أوردتها جمعية «متساوون؟» لا بد من أن تطرح السؤال عما إذا كانت النساء البريطانيات حققن فعلاً المساواة مع الرجل التي سعين إليها على مدى عقود. الأرقام والحقائق تقول إن ذلك لم يتحقق بعد!