أنجز أول نسخة من القرآن الكريم بأسلوب فنيّ لم يسبقه إليه أحد، تميزت بخط جديد خاص، ابتكره من خلال خبرته الطويلة في معالجة الخط العربي والبحث عن عناصر جذب جديدة فيه. وتميزت هذه المعالجة، بخلاف ما هو شائع، بزخرفة متفردة لكل سورة من السور المئة والأربع عشرة، فكان إنجازه ثمرة عشر سنوات من التدقيق والصبر والاجتهاد في تقديم عصارة معرفته وعلمه وإبداعه الفني. وليس هذا بغريب على فنان برع في إطلاق زخرفات واسعة الانتشار في العالم. هي نسخة وحيدة من هذا المصحف بلغ وزنها اربعة وعشرين كيلو غراماً، أنهى الخطاط والمصمم اللبناني الأميركي مروان العريضي العمل فيها، وقد احتفل قبل أيام قليلة في قصر اليونيسكو- بيروت، بإطلاق كتاب فخم يشرح فيه هذه التجربة، ويقدم نماذج من صفحات القرآن الكريم كما صممها، جاء تحت عنوان «في رحاب فن الزخرفة الشرقية»، فكان الكتاب هو الآخر تحفة فنية تضيء جماليات خطوط الفنان وزخرفاته، ونموذجاً للأناقة والفتنة ومتعة البصر، بورقه المصقول وسطوة ألوانه وإخراج صفحاته. وصل العريضي إلى هذا الإنجاز المهم، بعدما نهل من علوم الخط على يد عميد الخطاطين اللبنانيين الشيخ نسيب مكارم، قبل أن يهاجر إلى الولاياتالمتحدة ليدرس فيها الغرافيك ديزاين والإعلان والفنون التشكيلية، ليصبح في ما بعد واحداً من مصممي أكبر شركات الكومبيوتر والبرمجة في العالم («أدوبي» و «آبل»)، فيصل صيته إلى أرجاء العالم، وتصبح تصاميمه مطلوبة بشكل واسع. يحدثنا العريضي في هذا الحوار عن تجربته، ويتوقف عند إنجازه الكبير لهذه النسخة المميزة من القرآن الكريم. عشر سنوات تطلب ظهور نسخة القرآن الكريم التي تطمح إلى إصدارها في شكل واسع. كيف فكرت بهذا المشروع الكبير؟ وإلامَ هدفت؟ - للفنان الكبير الراحل وجيه نحلة فضل عليّ في ولادة الفكرة، فهو صاحب تجربة واسعة في مجال الخط والحروفية والزخرفة. كنت ألتقيه في دبي، وقد أتينا على نقاش مشروع مصحف كبير أضع فيه خبرتي الفنية.غير أن مثل هذا المشروع، ونشر مثل هذا المصحف الذي اتفقنا على تصور عام له، يحتاجان إلى تكلفة عالية، وكان وجيه على علاقة جيدة بالرئيس الراحل رفيق الحريري، وقال لي حينها إن الرئيس مولع بالزخرفة، ولا بد من أن يتبنى نشر مثل هذا العمل، خصوصاً أنه يجمع بين نص مقدس وجماليات شرقية إسلامية. كان هدفي الأول أن أقدم تجربة جديدة متميزة بين إصدارات القرآن الكريم الواسعة في العالم، قوامها تشكيل صيغة فنية خاصة لكل سورة، تصميمياً زخرفياً ورسماً، وهذا يعني أن عليّ أن أبتكر 114 تنويعاً زخرفياً، أي بعدد السور، أي أن أقدم من خلال المصحف موسوعة فنية إسلامية، تمتد من بدايات الزخرفة الإسلامية حتى عصرنا الحديث، بعيداً مما هو متبع عادة في المصاحف، من تكرار لصيغة زخرفية وتشكيلية واحدة في كل الصفحات. في البداية، تأكدت من أن مثل هذه التجربة غير مسبوقة، ثم بدأت العمل، ولم يكن هذا التحدي بسيطاً، إذ استوجب مني جهوداً وأسفاراً اطلعت في خلالها، من قرب، على تفاصيل الزخارف الإسلامية والشرقية المنتشرة في الأماكن المعروفة في العالم. عصر الكومبيوتر أود لو تضعنا في التفاصيل الفنية للبدايات والمفردات التي استخدمتها. - بدأت في شكل جدي عام 2000، وكان تركيزي على المفردات الزخرفية التي أردت استخدامها، وعندما اطمأننت للوصول إلى 80 في المئة منها، انتقلت إلى البحث عن خط مميز أستخدمه في كتابة كل سور القرآن الكريم. كان همي الأساسي ألا تكون جماليات الزخرفة طاغية على جماليات الخط، وأن تكون متناسبة ومتناسقة معها، ثم أن تصب جماليات هذين العنصرين بالتالي في خدمة النص، والتأثير في القارئ لإدخاله باطمئنان وانجذاب إلى الجو الروحاني الديني الذي يتضمنه النص القرآني. بدأت معالجة الخط للوصول إلى صيغة خاصة عام 2002، وانطلقت من تجهيز تفاصيل تبدلات أشكال كل حرف بحسب موقعه من الكلمة، واشتغلت كثيراً في التدقيق بالتفاصيل، ولي تجربة سابقة في تنفيذ فونتات (fonts)، بل لدي 80 «فونتاً» باللغتين العربية والإنكليزية، موجودة في برامج الكومبيوتر. عندما أنهيت تصميم الخط بدأت صف الأحرف على الكومبيوتر، وكل عملي بالطبع، خطاً وزخرفة وتصميماً، نفذته على شاشة الكومبيوتر، فلم أستخدم ريشة ولا مادة لونية، ويأخذ عليّ البعض ذلك، متناسين أننا في عصر التكنولوجيا، وعصر الإمكانات الهائلة للكومبيوتر، التي كان لها التأثير الإيجابي في الزخرفة الإسلامية والزخرفات والحضارات العالمية عموماً. واستمر العمل عشر سنوات على تركيب النص والزخرفات سورة سورة، وإنجاز الصفحات رسماً ونسخاً وتصميماً وتصحيحاً. واضح أنك اخترت خطاً يتميز بسهولة قراءته وجمال إضافاتك اليه. من أين استقيت هذا الخط؟ - أحببت أن أستخدم أحد الخطين، الكوفي والديواني، لكن الأول جامد والثاني تصعب قراءته، فلجأت إلى الخط المغربي، لا سيما ما يسمى «النزلات الفاسية»، للجمع بين الخطين في صيغة واضحة، وبالتالي توصلت إلى إنتاج خط فيه استخدام للقديم بأسلوب حديث، وكان الخط نفسه موحداً في كل الكتاب، غير أن جملة «بسم الله الرحمن الرحيم» الواردة في مطلع 113 سورة («سورة التوبة» وحدها لا تبدأ بالبسملة) وردت كل مرة بأسلوب مختلف، وقد استخدمت فيها أنماطاً مختلفة من الخطوط العربية المتباينة عبر التاريخ. كتاب عن كتاب لو تضعنا في نوعية المواد التي اعتمدتها في هذه النسخة الوحيدة من القرآن الكريم؟ -النموذج الذي أنجزت نسخة واحدة منه حتى الآن، طبع في بيروت، ويتألف من 376 صفحة بقياس (43 سم × 57 سم)، مطبوعة على ورق خاص، مصنوع من القطن الصافي الخالي من المواد الكيميائية، بحيث يبرز جمالية الزخارف والتصاميم ويظهرها بأفضل حلة، ويحفظها لمدة طويلة من الزمن، وقد استخدمت نوعاً من الحبر الخاص الذي يدوم إلى أمد بعيد. أما الغلاف الخارجي فهو مصنوع من الجلد الطبيعي ومزركش بنقوش، بعضها نافر وبعضها الآخر غائر، وبمستويات عدة ، وهو إلى ذلك مطعم بالذهب. المهم أني قدمت ما استطعت من جهد مطلوب للوصول إلى نهائيات هذه النسخة، على أمل بأن يأتي من يكمل المهمة، ويساهم في طباعة الكتاب ونشره وفق التفاصيل المذكورة. نفهم أنك أصدرت كتابك الجديد «في رحاب فن الزخرفة الشرقية»، ليعوض ولو جزئياً تأخر إصدار الكتاب الأساسي، أي نسختك من القرآن الكريم، في انتظار من يقتنع بتمويله. - كتابي الجديد ينقل بصدق وبالصور والتفاصيل كافة المراحل التي مررت بها في تصميم -ورسم- المصحف، فهو كتاب عن كتاب، أتوقف فيه عند تصميم كل سورة شارحاً، ولو باختصار، مصدر زخرفتها وأسلوبها والحقبة الفنية التي تأثرتُ بها. وكتابي الجديد هذا يتألف من 250 صفحة فقط، تتضمن مقدمة، وشروحات مقتضبة عن الزخارف والخطوط، واستنتاجات خاصة، ويقتصر على صفحة واحدة من كل سورة كنموذج للصفحات الباقية، في حين أن المصحف الذي أنجزت نسخة منه يتسع ل376 صفحة، ويزن ستة أضعاف الكتاب المنشور. مع «أدوبي» و«آبل» كيف تقف اليوم أمام هذا الإنجاز؟ ماذا يعني لك؟ - حققت حلماً كان يراودني منذ زمن، ولكوني متخصصاً بالزخرفة استطعت أن أقدم ما يرضي طموحي، وشعرت بأني، من خلال هذا العمل الذي أعتبره مرجعاً واسعاً للزخرفة الشرقية والإسلامية والخط العربي، أخدم الفن. فالفن تواصل، ولا بد لنا من أن نبحث دائماً عن التجديد، ونضيف إلى الفن الموجود من مئات السنين جماليات جديدة. كانت بداياتك في الخط قوية كونك تعلمت على يد كبير الخطاطين اللبنانيين الشيخ نسيب مكارم. ما الأثر الذي تركه فيك؟ - أعتز بأني كنت من تلاميذ الشيخ نسيب، لكن للأسف توفي عندما كنت في بداية انطلاقتي الفنية عام 1971، تعلمت على يديه خطوط النسخي والرقعي والديواني والثلث، وهي أكثر الخطوط تداولاً. كانت أهميته، عدا المهارة التي كان يمتلكها، في أنه كان يبتكر تشكيلات جديدة، ويقدم أساليب تزيينية وفاتنة للخطوط العربية. وهذه الطاقة الفنية الكبيرة لأستاذ مثله لا بد من أن تترك أثرها في تلامذته. سافرت إلى الولاياتالمتحدة، وهناك درست واشتغلت في فن التصميم وبنيت سمعتك العالمية. كيف حدث ذلك؟ - بالفعل ذهبت إلى دالاس، وهناك نلت إجازة في «الغرافيك دزاين»، ثم «ماستر» في الإعلان وتاريخ الفن، وأنجزت دراسات كثيرة في تاريخ الفن، ثم بدأت العمل في الثمانينيات، وعام 1990 صرت صاحب شركة ناشطة في «الغرافيك ديزاين» والخط، وعام 1994 بدأت تنفيذ تصاميم وزخارف فنية لشركة «أدوبي سيستمز»، التي بدأت نشر أعمالي في جميع أنحاء العالم، وهذا ما ساعد على أن أصبح فناناً معروفاً على مستوى العالم، وقد بلغ عدد تصاميمي الزخرفية وخطوطي العربية واللاتينية عشرات الألوف، وشملت الأطر والرسوم التي يستخدمها المصمم لكتاب أو مجلة أو جريدة. وصممت لشركة «آبل» الشهيرة بعض الخطوط العربية، وفي 2006 و2007 تعاملت مع «أدوبي»، الشركة الرائدة عالمياً في التسويق الرقمي والوسائط الرقمية، فتولت تسويق أعمالي عبر أسطوانات رقمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. تعرضت أعمالي للكثير من القرصنة، لكنها باتت موجودة ومعروفة في كل أنحاء العالم. وقريباً ستكون لي خمسة أعمال زخرفية مهمة، في قاعة المركز الرئيسي لصندوق النقد الدولي، في إطار عملية تجديدها، كل عمل سوف يكون مختصاً بمنطقة من العالم ويحاكيها فنياً. في الخليج العربي أيضاً نعرف أن لك نشاطاً فنياً في دول الخليج العربي، خارج التوزيع العالمي لأعمالك الرقمية. - هذا صحيح. نفذت أكثر من 170 تصميماً لي في قصر السلطان قابوس بعُمان، وتصاميم أخرى في قصر الملك عبدالله بن عبدالعزيز (رحمه الله)، وأعمالاً أخرى في قصور أمراء وشيوخ في منطقة الخليج العربي، وقد تنوعت بين سجاد حائط وزخارف وآيات قرآنية. كيف تفاعل الأميركيون مع أعمالك الفنية الشرقية والإسلامية؟ - الأميركيون يحبون الفن، فأنا في البداية سوقت أعمالي معهم، وهم استخدموا زخارف لي في مجالات عدة، وقد دخلت بعض أفلامهم، ودفعوا حقوقي فيها، كما استخدمت شركة «تايم» المعروفة زخارف لي في أغلفة كتب أصدرتها، فدائماً أتلقى اتصالات من محامين يطلبون مني شراء حقوق زخارف يختارونها من نلك المنتشرة على صفحات الإنترنت. وأنت تفاعلت بالتأكيد مع التصاميم والزخارف الأميركية، فقدمت تصاميم غربية أيضاً. - صحيح، تعاملت مع البيئة التي عشت فيها، وإن كانت الروح الشرقية هي التي طبعت أعمالي وحددت ميولي الأساسية. لم أعزل نفسي عن الفنون التي حولي، إنما كنت متفاعلاً معها، خصوصاً في أعمالي التجارية، فقدمت العديد من الأعمال التي تدخل في إطار الأشكال الفكتورية، وقدمت للشركات الأميركية ما يتناسب وطبيعة المتعاملين معها.