حتى وإن لم يكن للفن التشكيلي العربي أب مؤسِس «لصياغات تراثية فنية أو وجود ذاكرة تشدّ الفنان وتجذبه إلى قواعد يتكئ عليها ويلجأ لها»، فإن الفنانين التشكيليين العرب اليوم أوجدوا لأنفسهم بصمة تشكيلية خاصة وقدرة فنية مغايرة، وتدرج الجيل الجديد منهم ابتداء من محاكاة الواقع وتجلياته المختلفة إلى ما بات يُعرف اليوم بفن ما بعد الحداثة، ووظفوا مستخلصات البيئة في صناعة اللوحات وخرجوا من إطارها ومحدوديتها إلى التجريب والابتكار كلٌ بما يريده ولا يُفرض عليه. ولذا كان من الطبيعي أن نجد أحد الفنانين السعوديين الشباب وهو محمد الشهري يتحوّل سريعاً في معرضه الأخير، المقام هذه الأيام في أتيليه جدة للفنون الجميلة، ويضم قرابة 55 عملاً وتنظمه جمعية الثقافة والفنون، ويُخرج لنا تجربة على غير ما عُرف بها في السابق، ويفاجأ الحضور الكبير الذي لم يتوقع ظهور الشهري بهذا الوعي الفني والقدرة الجادة في التعاطي مع المدارس الفنية الجديدة، فيعترف محمد بذلك، ويقول ل «الحياة»: «في الحقيقة لم أكن متيقناً من صدمة الجمهور، ولكنني راهنت على هذا المعرض، لسبب بسيط وهو الإخلاص للفن والاجتهاد في ممارسته بعيداً عن الالتباس أو التناص أو التقليد المكروه وأخذ مني سنوات كثيرة لترونه بهذه الصورة». ولعل هذا هو الذي جعل الحس الفني يتوالد ويكبر داخل الفنان والتحليق في فضاء التجديد والنهوض بمشروعه، الذي بدأ يتشكّل وتتضح بصمته الحقيقية في سماء الفن السعودي المعاصر. ورداً على سؤال عن حضور المباني الدينية في بعض الأعمال قال الشهري: «حاولت في بعض اللوحات أن أجد لها مناخاً خاصاً تنفرد به، وأن أترك للمتلقي استنطاقها بالشكل الذي يراه ولا أجبره عليه». وعن المعرض يقول مدير جمعية الثقافة والفنون عبدالله باحطاب: «إن هذا المعرض يأتي في إطار الدور الذي تقوم به الجمعية وتشجيع الفنانين الشباب. والفنان الشهري فنان صاحب تجربة أصيلة أثبتت حضورها محلياً ودولياً، وهي تجربة تستحق أن يحتفي بها». وحول تجربة الشهري يرى الناقد والفنان أحمد منشي أن الشهري «ابتعد عن المحاكاة والرؤية الساذجة للأشياء، وقادته إلى ذلك مقدرته الاختزالية ومحاولته الجادة في الوصول إلى درجه أعلى، لناحية العمق اللوني والجودة التقنية الممزوجة بالعفوية والتلقائية». ويقول مدير الأتيليه هشام قنديل: «بدأ يظهر التشخيص التعبيري لدى الشهري من ثنايا لوحاته سواء بالتلميح أم بالتصريح، ويقيم حواراً بين الهندسة الجامدة والتلقائية في الأداء ليقدم حلولاً جديده لأشكاله نفسها المأخوذة من الطبيعة، وكأنه يعيد بناء موضوعه من جديد، حتى ولو استخدم وسائط مختلفة مثل الخيش إذ حقق له توظيفها حرية بأسلوب تجريدي يميل إلى التبسيط. ونجح الفنان في اختزال التفاصيل والتبسيط في العناصر والمساحات، ما أكسب العمل قوة تعبيرية كبيرة». ويؤكد الفنان والناقد سعد العبد أن المتأمل في تكوينات محمد الشهري التشكيلية «سيلاحظ ما تمتاز به من تنظيمات جمالية وإيقاعات خطية، ذات إيحاء بالتناغم والترديد، كما تتميز بالهارمونية اللونية التي تحققت من خلال تلك التناغمات التي توحي تارة بالأحمر الدافئ أو البني القاتم أو الأبيض، الذي يعبّر عن النور والصفاء، حيث تلك الرموز الدينية التي تتجلى بشكل جلي ممثلة في الكعبة المشرفة». يذكر أن الشهري شارك في عدد من المعارض الجماعية داخل المملكة وخارجها، وحقق عدداً من الجوائز المهمة، أبرزها جائزة مسابقة «السفير» وجائزة «ملون السعودية» للفن التشكيلي، وجائزة أبها التشكيلية.