هل اللغة كائن حيّ فعلياً، بالمعنى الواسع لكلمة حياة، أم أنها بنيان متكامل بحيث لا تكون الإضافة إليه إلا صباً للجديد وسبكاً في قوالب ذلك البنيان، كي يأتي دوماً على شاكلته؟ يدور كثير من النقاش عن اللغة العربية والترجمة، إنطلاقاً من القول الثاني، ويبدو من يتبنى القول وكأنه شاذ أو غير متعمق في الإمكانات الهائلة المفترضة للغة العربية، بمعنى أنه غير قادر على تصور وجود قوالب جاهزة تصلح لكل مكان وزمان وحاجة وعلم، مهما تغيّرت تلك الأشياء وتبدّلت! في هذا المعنى، تبدو اللغة وكأنها نوع من "ديانة" مضمرة، وربما يجد القائلون بهذا الأمر سهولة في الانتقال من النقاش عن اللغة الى الحديث عن الدين، خصوصاً الإسلام. ولعل المثال الأكثر شهرة ودلالة على ذلك هي الأبيات الشهيرة لحافظ إبراهيم عن اللغة العربية، التي تحاجج عن ضرورة الالتزام بقوالب اللغة، لأنها استطاعت ان تكون لغة النص الديني القرآني! وإذا ظهرت قوة الخالق في ذلك النص، فهل يعني ان البشر لهم قدرة مماثلة، وفي كل زمان وحين، على الإتيان بأمر مماثل؟ إنه أحد الأسئلة التي تشير أيضاً الى عقم النقاش في هذا الاتجاه. في المقابل، سأتحدث عن مثالين بسيطين عشتهما. إذ ترجمت "أساطير وحكايات خرافية لشعب الباسك"، واجهتُ مشكلة عويصة. فالنص مترجم عن الباسكية القديمة، التي إندثرت تقريباً، ومكتوب بلغة إنجليزية تعود الى العام 1884. وعلى رغم قصر المسافة نسبياً التي تفصلنا عن زمن كتابة النص، إلا أن اللغة الإنكليزية تطوّرت خلال تلك الفترة البسيطة بحيث صارت للكثير من المفردات معنى مختلف. وبقول آخر، فإن تغيّر السياق الزمني جعل لتلك الكلمات معنى آخر. وصار لزاماً العودة الى قواميس تشرح السياق التاريخي للكلمة، كي يُفهم ذلك النص. كيف تغيّرت لغة في أقل من 150 سنة، من دون ان تعاني ولا تفترض "خيانة" هويتها في هذا التغيير؟ وما علاقة ذلك بالإنتشار الهائل لهذه اللغة عالمياً، وقبله سيولة علاقتها مع العلوم؟ أسئلة تحتاج الى تعمّق. في تجربة أخرى، ظهر أثناء ترجمتي لكتاب "نظرية الفوضى: علم اللامتوقع" مفردة مثير للتأمل: ال"فراكتال" Fractal. وفي القواميس، تشتق تلك الكلمة من "فراكشن" fraction، وهي كسر العدد، وخصوصاً انها كسر عُشري. ولكنها تستعمل لوصف عملية حسابية معقّدة، تنطلق من كسر الرقم واحد، كي تشتق منها أرقاماً يؤدي رسمها بيانياً الى ظهور أشكال شديدة التعقيد، لأنها تبتدأ من رسم بسيط ثم تكرره، لكنها تتغيّر عند كل تكرار، فلا يعود التالي يشبه السابق تماماً، على رغم أنه تكرار لمواصفاته الأساسية. واستعملت نظرية الفوضى هذا المصطلح في محاولتها تفسير أشياء مثل أشكال الغيوم. وتستعمل ال"فراكتال" في الكومبيوتر لصنع تلك الأشياء المتراقصة التي تتكرر على الشاشة ولكنها تتغيّر أيضاً باستمرار. وترجمت "فراكتال" بكلمتي "التكرار المُتغيّر". ولا يوجد في قواميس اللغة العربية ترجمة لل"فراكتال"، إلا باعتبارها كسراً. إنها ترجمة السياق، وربما نوع من "التأويل" (بالمعنى الفلسفي الغربي للكلمة)، وليس ترجمة تفترض ان المعاني أفرغت من الألفاظ بحيث يستحيل على السياق (في اللغة أو الزمن) ان يغيّرها. ربما وُصف ذلك بالجرأة أو بالخيانة. لكني أرى الترجمة زرعاً لكائن حيّ في أرض وبيئة مختلفة ومُغايرة عن الأصل، ما يفرض ضرورة التدخل الواسع لضمان استمراره في الحياة. وأما أن يُصبّ ذلك الكائن المُقتلع في قوالب جامدة ومُعطاة بصورة شبة أزلية، فذلك ما أعتقد أنه أقرب الى السعي للقتل ما ذلك الكائن الحيّ. وأخيراً، إذا كان النقاش عن اللغة العربية والترجمة ما زال يدور في هذه الأطر "التأسيسية"، وكأن ما سبقه من نقاشات لم يتراكم (لماذا؟) ولم يرسم مساراً، فأظن أن ذلك يشير الى ان اللغة العربية في مأزق شديد الصعوبة والتعقيد.