كنت أستمتع كثيراً بالجلوس في هذا المكان، صباح مساء، أستريح إلى منظره الهادئ الساكن، عندما أجلس على ناصية هذا المقهى الباريسي أقلب أفكاري في شأن من شؤون الحياة، أو أقرأ جزءاً من كتاب، وأجد أن هذه الجزئية تنطق تصويراً كأنما يعرض أمام عيني مشهداً تمثيلياً من جراء الألفاظ والتراكيب التي تجعلني أتعلق بها، كنت أجد في هذا المكان لذة وغبطة، وهذا الجو البديع والنادلة الجميلة خفيفة الظل، دخلت في ساعة خيال ذهبية، فيها لذة فهمت نغمتها حين تغرد. بالفعل استهواني هذا المكان العجيب، حتى شعرت أني قد بدلت بنفسي نفساً غيرها. أثناء هذا الافتتان الجميل يمر بي رجل كبير من سكان بلادنا العربية، شيخ يقارب عمره السبعين، يعكز على عصا في يده ويلبس بنطلوناً أسود وقميصاً أحمر وصدرية خضراء، يضع على رأسه قبعة - منقار البطة - لونها أسود، له شعر فضي طويل مسترسل على كتفيه، يحمل كتاباً في يده، تلألأ وجهه النحيف المائل إلى البساطة والظرافة حين رآني أقرأ على طاولة كنت رأيته يجلس عليها، أو على طاولة قريبة منها، من قبل، أنست به وبمنظره الجميل الأنيق، بدأ بالتحية وأشار إلي بإصبعه وهو يقول: أنت عربي! قلت: نعم. قال: أتسمح لي بالجلوس؟ قلت: تفضل. جلس على المقعد المحاذي للمقعد الذي أجلس عليه، ألقى عصاه تحت قدميه، ووضع قبعته بجانبه، ثم رفع رأسه إلى السماء وأخذ نفساً عميقاً وأعاد النظر إلي، رأيت وجهاً متهللاً، كأنما شعر بمثل الذي شعرت به من العطف والود. قلت له: لعلك تعيش في هذه المدينة منذ زمن طويل؟ قال: نعم، طويت فيها سنوات شبابي، وها أنا ذا أطوي فيها سنوات شيخوختي، لكني أريد أن تبرد عظامي غداً تحت ثرى بلادي. نحن العرب مهما حلقنا بعيداً لا نرضى بأن يلتهمنا غير تراب أراضنا. سكت برهة ثم قال: عملت هنا ثلاثين سنة، وقبل أن أعود إلى الوطن أتى ابني ليقوم بعملي نفسه، وبقيت أنا أتردد بين هنا وهناك. وجم قليلاً وظل صامتاً لا يقول شيئاً، ثم تنهد تنهيدة طويلة اختلجت لها أعضاؤه وقال وهو يحدق بي: رأيتك خلال يومين تقرأ هنا، إن المكان جميل وهادئ ويساعد في القراءة، وكذلك في الكتابة الإبداعية. قلت: كأنك كنت معي وأنا أقرأ. قال: نعم. شعرت بك وأنت تقرأ، كأنك تجوب عالماً خيالياً بديعاً. ابتسمت وقلت: نحن نتلقى الإبداع، لكننا لا نعرف كيفية إخراجه. فسكت وقال: سأخبرك بسر، لكن لا يمنع بأن تخبر به محبيك، إن كان وقتك يسمح بذلك! فأكبرت الرجل في نفسي وأعظمته، وعلمت أنه يحمل بين جنبيه نفساً كبيرة سامية، وضعت كتابي جانباً وقلت له: نعم يا سيدي إنني أتشوق إلى أن أسمع منك. قال: في هذا الكون أسرار ومعلومات كثيرة، لكن، كيف يستطيع الشخص منا الحصول على هذه المعلومات والأسرار؟ لا تأتي هذه الأسرار، التي منها الاكتشافات الأساسية في العلوم، نتيجة التفكير المنطقي، بل تأتي بصورة إضاءة في الظلام، أو كلقاء مع المجهول، وينطبق الشيء نفسه على الابتكار والعبقرية. إن الموسيقى الجيدة يا بني لا تتكون نتيجة تأليف نوتة موسيقية، ولكنها تتكون من تلقاء نفسها، وروائع الفن لا تنشأ نتيجة التنفيذ الفني المهني، بل تولد من الإلهام. قلت: هو الإلهام، كيف نستخرجه؟ قال: لا تستعجل يا بُني، أنتم أيها الشباب تستعجلون، لذلك لا تحصلون إلا على الفوضى. لو نظرنا إلى اللوحة الفنية المرسومة في شكل فني مثالي ليس من الضروري أن تصبح تحفة، إن الذي يجعلها تصبح تحفة هو ما يقع في حدود التنفيذ الفني، والشعر الذي يلامس قرارة النفس لا ينظم نتيجة الانتقاء الحكيم للأوزان والقوافي، بل ينبع من أعماق الروح. إن العقل الواعي لا يستطيع قراءة الأسرار الإلهامية، ولكن العقل اللاواعي ينفتح مباشرة على كل الأسرار الإلهامية، وهناك تحديداً توجد الهواجس والحدس والتنبؤات والاكتشافات وروائع الفن والابتكار. إن أنصت المبدع، والمحترفون يعرفون ذلك؛ إذا أنصت الإنسان فإن المعلومات تأتيه من خيال العقل اللاواعي، وتنتقل إلى العقل الواعي على مستوى البدهيات، وتصبح حينئذ الفكرة موجودة، لكن السؤال المهم هنا، كيف يلتقطها؟ وكيف يوظفها كمبدع؟ وهي أيضاً لا تأتي عبر الأفكار، بل تبرز وحدها عند الهدوء أو الصمت المطلق. فالمعلومات تكون موجودة بصورة بيانات طاقية معقدة، سجل فيها كل ما يجعل المادة تتحرك وفق قوانين محددة، في البداية يتم استقبال البيانات من أسرار الكون من طريق الروح، أي في اللاوعي، بعدها ترسل إلى العقل الواعي بصورة كلمات أو إشارات، وهكذا تتولد الاكتشافات أو تنشأ الأشياء الجديدة، مثل الموسيقى والأعمال الفنية، أي الأشياء التي لم يستطع الإنسان أن يراها أو يعرفها في شكل مباشر، وبهذه الطريقة نفسها تظهر المعرفة الحدسية والهواجس. قلت: هل يعني، أن العقل لا يمكنه أن يوجد شيئاً جديداً بنفسه؟ قال: إن أي ابتكار خلاق قائم على أساس الروحانية والإلهام ليس له أية علاقة بالعقل. إن العقل يصنع فيما بعد تفرعات من هذا الابتكار بميزاته، على سبيل المثال، يمكن للعقل أن ينسخ مجسماً قديماً في شكل مثالي، لكن ليس لديه القدرة على أن يصنع مجسماً مبتكراً. ويمكن للعقل أن يحلل البيانات التي حصل عليها بواسطة العقل اللاواعي من النظام السري للكون، ويعالجها بالتفسير الرمزي في شكل لوحات ونغمات وقصائد وصيغ ومجسمات. إن التأكيد أن الإنسان قادر على ابتكار كل ما هو جديد بمساعدة عقله ليس إلا فرضية، لكننا ببساطة اعتدنا على هذا النموذج منذ فترة طويلة، وأصبح مريحاً بالنسبة إلينا، فالإبداع يتجسد في أن البيانات القادمة من النظام السري الكوني تصل إلينا بطريقة أو بأخرى عبر مجموعة متنوعة من التلميحات والرؤى والأفكار والعلامات والبصائر، ويتحتم علينا قدر الإمكان أن نفهم معناها. قلت: يا لها من صدمة معرفية! لكن من الواضح أن قراءة البيانات من النظام السري للكون أمر غير ممكن إلا لعدد قليل جداً من الناس الفريدين من نوعهم! قال: معظم الناس يتلقون أصداء لهذه الأسرار في شكل هواجس عابرة ومعرفة غامضة، إن الأشخاص العاملين في مجال العلم والابتكار يحصلون على الإلهام بعد أيام طويلة أو سنوات من الهدوء والسكون، لكن هذا السر لديك الآن، لعلك تفيد به من تحب، فالأشياء المبتكرة دائماً تكون متوفرة، لكن علينا أن نضبط التردد بهدوء وصمت ومن دون تفكير، فالتفكير الكثير يشوش على الفكرة، وعندما تبرز الفكرة يأتي التفكير لاحقاً. قلت: إذاً... وقبل أن أكمل هطل المطر بغزارة عجيبة، فقمنا نبحث؛ نتدرق.. فاختفى هذا الرجل العجيب، واضطررت إلى المغادرة، ولم أره بعدها.