جاء انتشال التميمي، إلى السينما وإدارة مهرجاناتها وبرمجة أقسامها، من عالم التصوير الفوتوغرافي والتصميم الطباعي، مرجعيته عدا الأكاديمية باعتباره خريج كلية الصحافة من موسكو ، معرفية اختلطت فيها التجربة السياسية بالثقافية، وموهبة لافته في التقاط تفاصيل ما يحيط به، والإقدام على رغم ما يظهر عليه من سكون وهدوء على تجريب ما لا يعرفه جيداً حتى يتمكن منه. ومن هنا جاء وصفه من قبل المقربين منه والعاملين معه منذ شبابه ب «الطفل المعجزة» تحبباً. قادر انتشال على التحرك بسرعة وإنجاز أكثر من عمل في آن وبإتقان يحسد عليه، ميزته الأهم قدرته اللافتة على الإصغاء، والبناء على ما يصله من دون ضجة أو ادعاء فلا غرابة لمن يعرفه جيداً أن يراه ملماً بتفاصيل عمله السينمائي بمقدار إلمامه ببقية الشؤون ولا غرابة أن يتولى إدارة مهرجان سينمائي وهو العراقي في بلد السينما العربية... مصر. مهمة عليه إنجازها بكل ما فيها من تحديات وفرادة كونها تؤسس على أرض مدينة صغيرة لم تعرف صناعة السينما ولا تقاليدها مثل القاهرة وبقية مدن مصر الكبيرة. فالجونة البعيدة أميالاً كثيرة عن العاصمة، قليلة السكان أرادت كسبه لمصلحتها فأعطته مهمة إقران اسمها بفعل سينمائي مهم، ثقافي في جوهره، ليكون لصيق صفتها كمدينة سياحية رائعة بامتيار. ومن طبيعة الجونة نفسها بدأ حوارنا معه حول مهرجان الجونة ولماذا يقام فيها. وفي الأحوال كافة ما هي الخصوصية التي تميّزه عن البقية التي سبقته؟ وكعادته تدفق كلامه «الموزون» من دون أن يأخذ استراحة. أمكنة المهرجانات - سؤال الخصوصية... للإجابة عنه، لا بد من التذكير بالعام؛ فكل مهرجان سينمائي في العالم يمتاز بتفرد المكان المقام عليه. بعد أكثر من سبعين سنة من التجارب المهرجانية في العالم من الصعب أن تجد لك خصوصية منفردة بالمعنى الحرفي للكلمة، المهم في رأيي أن يجد كل مهرجان الشكل والحجم والطموح المناسب للمكان. بالنسبة إلى الجونة، التي يحلو لنا تشبيهها ب «كان» الفرنسية ولوكارنو وسندانس، وكلها ليست مراكز، السعي الحقيقي لها هو أن يكون مهرجانها شبيهاً بها. أما خصوصيتنا فحدّدت في اللقاء الأول الذي جمعنا مع مؤسسه نجيب ساويرس وبقية الفريق المهيئ للمشروع. كان التصور ومنذ اللحظة الأولى واضحاً: أن يكون المهرجان شاباً، يشبه المدينة الشابة التي ينظم فيها وينسجم مع طبيعتها كمدينة أطراف ساحلية، لذلك فإن صيغة تكوين المهرجان بُنيت على هذا الأساس؛ على طبيعتها الجغرافية، على عدد المرافق الثقافية المتاحة فيها وتم تصميم المهرجان وفقها ووفق خبرة تجارب مشابهة على كل المستويات. كل هذا من دون مرجعيات؟ - انطلقنا في التأسيس في الجونة من مرجعيات سابقة ومنها أردناه أن ينهض قوياً! يبدأ بقوة على كل المستويات. لم نرد له أن يتصاعد متدرجاً من الصفر التجريبي. لا... أرادناه أن يولد كبيراً، وهذا يتطابق مع طموح مؤسس المهرجان المعروف بنجاحه كرجل أعمال وبجسارته التجارية وبطموحه العالي، وانسجاماً أيضاً مع طموحنا الشخصي، في أن ننجز شيئاً مهماً يؤسس على قاعدة قوية واستثمار جيد لخبرات كل المساهمين الأساسيين الكبيرة. كان الرأي أن ينطلق العمل بدورة قوية والتخطيط لتحقيق ذلك بدأ فعلاً منذ اللحظة الأولى التي طرحت فيه فكرة إقامته قبل عام ونصف عام». وعلى المستوى العربي؟ - ما دمنا في الخصوصية، لا بد من التأكيد على انه، على المستوى المصري والعربي لأول مرة يؤسس مهرجان سينمائي من دون الاعتماد على دعم الدولة. فالرهان جرى منذ البداية، على دعم القطاع الخاص، والرعاة. صحيح هناك بعض المهرجانات القليلة مدعومة من جمعيات ثقافية واجتماعية إلا أن البقية تحصل على دعم مالي من مؤسسات الدولة تصل أحياناً الى أكثر من 80 في المئة من موازنتها. الخاصية الأخرى عدم اعتمادنا على كوادر قديمة عملت في مهرجانات سابقة، فهؤلاء الأشخاص أنفسهم نراهم ينتقلون بخبراتهم الجيدة وفي الوقت نفسه بصيغ العمل القديمة البالية من مهرجان الى آخر ويتركون خصالهم المهنية عليه، في حين كان تركزينا على الشباب وربما لأول مرة على كوادر شابة حملت مسؤوليات مضاعفة لكننا على يقين من قدرتها على إعطاء الكثير لا للمهرجان فحسب، فهؤلاء أنفسهم سيكونون ركيزة وطنية لعمل مستقبلي. شيء من المنافسة من دون المجاملات الشكلية كل مهرجان كبير في المنطقة يدخل في دائرة التنافس مع أمثاله، كيف تبررون طبيعة المنافسة وإلى أي حد تعملون لمنع وصولها الى مستوى «العداوة»؟ - هذا الوضع عايشته لزمن طويل فالمنافسة بين المهرجانات ظاهرة ليست عربية فحسب بل دولية. هناك منافسة بين برلين وروتردام وبين فينيسيا وتورنتو لتزامن انعقادهما. والمنافسة المعروفة بين مهرجاني دبي وأبو ظبي، كونهما في بلد واحد وخليجياً هناك منافسة بين دبي والدوحة ترايبيكا. من الصحي أن تتنافس المهرجانات لاستقطاب الأحسن وأن تتعدد نحو تغطية جغرافية أوسع. المهم في هذا الجانب ليس التنافس بل التكامل فليس هناك مهرجان في المنطقة وحده قادر على استقطاب كل الأفلام، لا الأجنبية ولا العربية ولا أحد منها قادر على جمع كل النقاد والصحافيين ولا النجوم بمفرده. والجوائز... سخية مغرية مثل المهرجانات الغنية؟ يتوقف التميمي عند حديث الجوائز ملياً، معتقداً في نهاية الأمر، أنها ملائمة. فهي ليست كبيرة مثل مهرجانات أخرى تصل أحياناً الى مليون دولار ولا شحيحة كما في مهرجانات موازناتها فقيرة. - مفهومنا للجوائز مختلف بعض الشيء إذ نريدها كمساهمة وتشجيع لصناع الفيلم على إنجاز أعمال جديدة. ونعود ونذكر أن طبيعة البرامج هي من يعطي الخصوصية وليس التنافس وحده. ليست مجاملة، أتمنى أن يزيد عددها فنرى مهرجانات في دول لم تعرف تنظيمها مثل ليبيا وغيرها وأن تكبر المهرجانات الصغيرة وتزدهر وأكرر القول «البحر واسع والسمك وفير والعربي بحيرة صغيرة وأسماكها قليلة» ولهذا ربما سيبقى التنافس على استقطاب الأبرز فيها أشد، وعليه وجهنا دعوة الى كل المهرجانات العربية الكبيرة من دون استثناء لحضور دورتنا الأولى من أجل مزيد من التفاعل بيننا. استقطاب إستثنائيّ يتزامن مهرجانكم مع انعقاد مهرجانين مهمين هما فينسيا وتورنتو ولضيق الوقت كيف تحلون مشكلة الحصول على الأفلام الجيدة المعروضة فيها؟ - ميزة برنامج المهرجان هي أن 70 في المئة من محتوياته تنتمي إلى الشهرين الماضيين حيث استطعنا استقطاب نخبة من أفلام مهرجانات الموسم الثاني من عام 2017، فالأفلام الفائزة في مهرجانات كارلوفيفاري ولوكارنو ومختارات من أفلام فينيسيا وتورنتو وجدت طريقها إلى المهرجان. فيلم افتتاح مهرجان سان سباستيان «غرق» لفيم فينديرز والذي سيصادف عرضه في يوم افتتاح مهرجان الجونة سينتقل إلينا بعد ستة أيام. فيلم «تنفس» والذي سيفتتح مهرجان لندن في تشرين الأول (أكتوبر) سيعرض في مسابقة الجونة. وأستطيع الاسترسال طويلاً بأمثلة غير محدودة من أعمال مهمة وحيوية تشكل مع بعض موازييك رائعاً من الجمال والفن. عندنا أفلام هوليودية كبيرة تتجاور مع أفلام صغيرة الإنتاج، عربية مع دولية، وثائقية وروائية قصيرة وطويلة هي قائمة التجارب التي نسعى إلى تقديمها مصحوبة بلقاءات مع معظم ممثلي تلك الأفلام بخاصة تلك التي أدرجت في مسابقاته. سؤال الدعم... منصة الجونة، هل تشترطون أشياء على المدعومين؟ - في تصوري حتى اللحظة وفي ما يتعلق بمنصة الجونة (الجسر والمنطلق) في القسم الأخير اخترنا من سبعين مشروعاً أثني عشر منها ستتنافس على جائزة المنصة وهناك ست جوائز أضافية قُدمت من الرعاة وكلها في مرحلة «التطوير» ولجان تحكيمها ستحسم خياراتها. في تلك المشاريع اشترطنا على الحاصل على جائزة الجونة أن يكون عرضه الأول لنا، وهذا الفعل نابع من أن هناك مهرجانات في المنطقة تضع هذا الشرط وفي حالة تخليها عنه سنتخلى بدورنا نحن أيضاً. فالاشترط نعتبره خطوة «جوابية» أكثر منها رغبة في الاستحواذ على العروض الأولى، لأن المهرجان عدا وظيفته التقليدية كعارض للأفلام يراد له التماثل مع عديد المهرجانات العريقة، التي تبنّت العمل على أسواق الإنتاج المشترك ونحن أيضاً حريصون على توافرها في الجونة، فهي من يُزيد من الحراك السينمائي ويشجعه، بعيداً من المؤسسات الرسمية الحكومية وطابعها البيروقراطي العديم الديناميكة. شيء من اللغط أنت العراقي وجودك على رأس مهرجان مصري، ألا يثير أقاويل قد تنم عن غيرة وحسد؟. - سبق الإعلان الرسمي عن انطلاق المهرجان في شهر أيار(مايو) هذا العام، إشهار تعييني مديراً له. في البداية ظهر لغط بسيط لكني حصلت على دعمين أساسيين؛ من قبل مؤسس المهرجان المعروف بمواقفه الصارمة فحين يقتنع بأمر ما يدافع عنه حتى النهاية وقناعة فريق العمل المؤسس وإحساسهم من خلال زيارتنا أكثر من مكان بنوع العلاقة المميزة التي تربطني بالوسط السينمائي على اختلاف مستوايته كل ذلك لم يكن بعيداً من دعم مخرجين ومنتجين وصحافيين مصريين سبق لي أن تعاملت معهم لمدد طويلة ويعرفون جيداً حرصي على تقديم منجز بمواصفات جيدة ونجاحي في مهماتي السابقة. سؤال فني ما هي الميزة الأهم في أن يكون المرء مديراً لمهرجان سينمائي وبخاصة عربياً. - بدأت عملي مديراً فنياً لمهرجان سينمائي صغير ربما استطعت من خلاله على رغم قلة موازنته تقديم فعل كبير. انتقلت بعد ذلك الى أبو ظبي وتوليت مسؤولية البرامج الآسيوية تحت ادارة الناقد الراحل الكبير سمير فريد ولاحقاً أصبحت مديراً للبرامج العربية وعضواً في «سند» ثم مسؤولاً عنها. كل ذلك شيء وأن تتحمل مسؤولية مهرجان كبير وفي أولى دوراته شيء مختلف أخذ مني قرابة «عشرة كيلوغرامات» من وزني!، على رغم ذلك غلب على عملي طابع التحدي وتذوقت فيه طعم استنهاض الطموح المتوهج هذا كله تم بتعاون مهم وجو متناعم فمدير أي مهرجان لن ينجح من دون وجود التوازن المطلوب والحماسة اللازمة لتقديم المزيد. والحقيقة كان الاندفاع، العامل المساعد الأهم لرفع شعار نريده ملازماً لمهرجاننا: الترقب والحماس.