بعد انتظار دام نحو القرن تخلّله إخفاقات كثيرة، نجحت أخيراً باريس في الظفر بشرف احتضان دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 2024 خلال الجمعية العمومية للجنة الأولمبية الدولية، في حين ستنظّم لوس أنجليس الأميركية نسخة 2028 بعد إجراء عملية تصويت مزدوج في ليما عاصمة البيرو أمس (الأربعاء). وشارك في عملية التصويت برفع الأيدي 84 عضواً في اللجنة الأولمبية الدولية ولم تحمل في طياتها أية إثارة أو تشويق منذ اعتماد هذا الخيار المزدوج في تموز (يوليو) الماضي. وانضمت باريس (1900 و1924) ولوس أنجليس (1932 و1984) بالتالي إلى لندن التي نظّمت دورة الألعاب الأولمبية ثلاث مرات. وتملك الإستضافة رمزية خاصة ذلك لأن البارون الفرنسي بيار دو كوبرتان أطلق الألعاب الأولمبية الحديثة من باريس بالذات عام 1894. وكانت باريس أخفقت ثلاث مرات خلال تقديم ملف ترشيحها وكان آخرها عام 2005 في سنغافورة في مواجهة لندن. وبعد انسحاب هامبورغ الألمانية وروما وبودابست من السباق، وتجنباً لخسارة إحدى مدينتين من الوزن الثقيل، طرح رئيس اللجنة الأولمبية الدولية الألماني توماس باخ في كانون الأول (ديسمبر) 2016 فكرة منح مزدوج، وكان على إحدهما القبول بتأجيل مشروعها المعد أصلاً لنسخة 2024 أربع سنوات. ووصف باخ هذا التصويت المزدوج الذي خالف التقليد المتبع سابقاً في اللجنة الأولمبية الدولية ب"التاريخي". وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تصريح نقل عبر الفيديو إلى أعضاء اللجنة الأولمبية خلال الجمعية العمومية، إن استضافة الألعاب الأولمبية الصيفية هو "التزام دولة بأكملها". في المقابل، اعتبر أريك غارسيتي عمدة مدينة لوس أنجليس أن مدينته "تجسّد وجه الولاياتالمتحدة المستقبلي وصلب القيم الأميركية المبنية على الكرم والوحدة وعملية الإندماج". وقال طوني استانغيه، أحد رئيسي ملف باريس 2024، "فرنسا تستحق هذه اللحظة. كنت أعتقد دائماً بأننا في موقع جيّد من أجل الفوز (بتنظيم نسخة 2024)، لكن كان من الهام أيضاً أن نبحث عن الأصوات مهما يكن السيناريو". ويبدو أنّ الحركة الأولمبية الفرنسية تعلّمت من دروس الإخفاقات السابقة بعد هزائمها القاسية في 1992 و2008 ولا سيما في 2012 أمام لندن: والدرس هو أنّ عليها في المستقبل أن تقوم بنفسها بترشيح محتمل وأن تقنع السياسيين بالتخلي عن القيادة. وكان برنارد لاباسيه، رئيس الهيئة الدولية المشرفة على الركبي أو ما كان يعرف سابقاً ب"بورد الركبي العالمي"، في طليعة من تبنوا هذا الطرح، واصطف خلفه أستانغيه، البطل الأولمبي ثلاث مرات في رياضة الكانوي-كاياك، --خليفته لاحقاً في رئاسة ملف الترشيح-- وبطل الجودو الذي لا يهزم تيدي رينر والعداءة السابقة ماري جوزيه بيريك، وأبطال آخرون من الشخصيات الرياضية الوطنية. وأشاد الرئيس الفرنسي ماكرون بمنح ألعاب 2024 لبارييس معتبراً أنه "اعتراف رائع لفرنسا"، مضيفاً "هذا الفوز، هو فرنسا". وتوجه إلى الفرنسيين من مطار بوانت-ا-بيتر في نهاية زيارته إلى جزيرتي سان-مارتان وسان-بارتيليمي المتضررتين من إعصار إيرما "أردت أن أفرح معكم. هذه ألعابكم وهذا نصركم... صفحة جديدة تفتح في السنوات السبع المقبلة. يجب أن يتحرّك البلد بأكمله، كل الإتحادات الرياضية". وعرف لاباسيه، صاحب التكتيك الناجح، كيف يقنع الوزراء ورؤساء الدولة ورؤساء المناطق وأخيراً رئيسة بلدية باريس آن هيدالغو بالتواري عن الأنظار. وقال لاباسيه "قدّمنا ضمانات جدية جداً وذات مصداقية ولا سيما أننا أظهرنا أهمية الرياضيين في الترشيح حتى أنّ الرئيس فرانسوا هولاند قبل أن يتخفّى خلفهم"، في مقابلة أواخر العام 2016 مع وكالة فرانس برس وهو يلوح بصورة تعود إلى العام 2005 وتضم برنار ديلانوي، رئيس بلدية بارس، وجان بول هوشون رئيس المنطقة الباريسية وجاك شيراك رئيس الجمهورية وجان فرانسوا لأمور وزير الرياضة. ووقفت في بادىء الأمر الروزنامة التي تتضمن قاعدة ضمنية وحيوية بالتناوب بين القارات والمعادلة الحاسمة لحقوق النقل التلفزيوني في صف باريس: فبعد ريو 2016 وطوكيو 2020، من المنطقي أن تعود الألعاب إلى القارة الأوروبية العجوز. إضافة إلى ذلك، أظهرت مواعيد إعادة التفاوض حول العقود مع مالكي حقوق البث، بوضوح أن خيار الألعاب الأوروبية في 2024 والأميركية في 2028 هو الخيار المالي الأفضل بالنسبة إلى اللجنة الأولمبية الدولية. بالتوازي، بعد الحملات التنافسية جداً لأولمبيادات 2012 و2016 و2020، رأت باريس منافساتها يخلعن القفاز الواحدة تلو الأخرى من بوسطن الأميركية -حلت محلها لوس أنجليس- مروراً بهامبورغ الألمانية وروما وانتهاءً ببودابست. وبعد أن أصبحت باريس وجهاً لوجه مع لوس أنجليس، أضحت اللجنة الأولمبية الدولية أمام معضلة هائلة: كيف تنظم انتخابات صعبة بين مدينتين من الوزن الثقيل من دون أن تغضب لا الولاياتالمتحدة ولا فرنسا. ولعبت عوامل عدة في صالح فرنسا: ترشيح باريس السابق لترشيح لوس أنجليس، ملاءمة مشروعها مع العام 2024 في وقت يمكن فيه ترحيل مشروع لوس أنجليس لأربع سنوات أخرى، وتصميم فريقها وأخيراً احتمال الإحتفال في باريس بأول ألعاب منذ 1924 أي بعد 100 عام على استضافتها الأولى. وإذا كان باستطاعة باريس أن تفخر بأنها ستنظم ألعاباً في مواقع مشهودة، فإن الأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة إلى لوس أنجليس، فهناك قاعة فريق لوس أنجليس ليكرز لكرة السلة "ستايبلز سنتر" التي ستستقبل أفضل اللاعبين في العالم، وشواطىء سانتا مونيكا التي ستقام فيها منافسات الكرة الطائرة الشاطئية، فضلاً عن أن باخ سيوقد الأحد الشعلة الأولمبية في الكوليزيوم، الملعب الأسطوري لألعاب القوى الذي كان مسرحاً لألعاب 1932 ولإنجازات الرياضي الفذ كارل لويس في 1984 (أربع ميداليات ذهبية).