لم يسبق ان أظهر حدث ربما تناقضاً صارخاً بين الشاشات كما الحال بالنسبة الى الحدث الليبي. واللافت ان الشكوى الدائمة التي تتكرر على ألسنة اقطاب النظام، بمن فيهم الزعيم معمر القذافي نفسه، تتمثل في ما يسمونها ب «الأكاذيب والتشويش والتضليل والتزوير...» التي تقترفها الفضائيات والإذاعات العربية «الخائنة والعميلة والمأجورة»... وما شئت من عبارات التخوين المستمدة من قاموس شتائم يتقنها هذا النظام. هنا نصل الى بيت القصيد، ذلك أن هذه العبارات تدفع المرء الى البحث عن فضائية اسمها «الجماهيرية» كانت ضائعة، إلى وقت قريب، بين قائمة الفضائيات الطويلة، وتائهة بين الأقمار من دون أن يلتفت إليها أحد، وحين يتوقف البحث عند ما تعرضه هذه الشاشة سنجد عجائب ومفارقات وطرائف إعلامية لا يمكن تخيلها. كل شيء، هنا، هادئ ليس فقط على الجبهة الغربية، وفق عنوان رواية وفيلم، بل على كل الجبهات. لا تظاهرات ولا احتجاجات، وكل ما يبث ويقال على الشاشات الأخرى ليس سوى أكاذيب لإذاعات تنسب الى «الكلاب الضالة». الجماهير على «الجماهيرية» تبدو مرتاحة؛ ترفل في النعيم وتهتف باسم «قائد الثورة»، والحياة تسير رخية وعلى نحو طبيعي في جميع مدن الجماهيرية، كما ينقل في شريط أسفل شاشة عن مصدر يوصف، حرفياً، ب «مصدر مطلع بالشعب المسلح». وفي حين تجتهد الفضائيات الاخرى، وعلى رغم التباين بين واحدة وأخرى، في ملاحقة الأحداث والصدامات التي تقع في بنغازي وطرابلس والزاوية والبيضاء، وتسعى الى رسم مشهد بانورامي لهذا الحدث المأسوي من المناطق الليبية وسط عراقيل كثيرة، فإن فضائية الجماهيرية تصر على إخفاء رأسها في الرمل من دون أن تقر بأن شيئاً مما تقوله تلك الإذاعات يصح، إذ تبث اغاني وطنية وهتافات تمجد الزعيم، أو تنقل من استوديوات مملة كئيبة حوارات مع شخصيات من أنصار النظام. كان التلفزيون التونسي ومثله المصري يخفيان جانباً من الحقيقة، ويقران، على الأقل، بوجود حراك جماهيري يصعب إغفاله. أما «الجماهيرية» فتستميت في دحض دعايات الفضائيات المضادة كلها بلا استثناء، عبر أداء يحاول حجب الشمس بغربال. تقتصر مهمة هذه القناة على حجب الحقائق والتزوير. لكنها، وبأدواتها الفقيرة والمتخلفة، تفشل فشلاً ذريعاً في هذا الهدف، ذلك ان التضليل والكذب يحتاجان الى مهارات فائقة كان يملكها، مثلاً، وزير الدعاية النازي غوبلز، فأنى ل «الجماهيرية» التي تأبى الاعتراف بأبسط الحقائق أن تنجح في مسعاها، خصوصاً أنها لم تتعلم خلال تاريخها سوى تقديم فروض الطاعة ل «الزعيم الأوحد» الذي بدأت اسطورته تنهار على وقع الأهازيج المهللة بانتصاراته وانجازاته.