جلست مغمض العينين، وبدأت أتخيل نفسي وأنا جالس على أحد أرصفة «ميدان التحرير» بعد انتهاء أحداث الثورة «المليونية»، كنت أتأمل المارة وبعضاً من شباب 25 حزيران (يونيو) وهم يكملون حملات (إعادة الدِهان والتزيين والتنظيف) لميدان التحرير وإعادة تأهيله للمستقبل بعد تلك الأحداث، سألت نفسي حينها: لماذا كان الوطن قاسيًا عليهم لهذه الدرجة التي دفعوا فيها دماءهم ثمنًا للتخلص من نظامه؟ وهل هو الوطن أم الأشخاص؟ هل كل ما حصل هو للتخلص من شخص؟ هل الشخص (مُشخصن) ومترسِّخ في تعريف الوطن، لدرجة لا تستطيع التفريق بينه وبين الوطن؟ ولدرجة أصبح من يريد الانعتاق منه هو مجرد مخرب؟ هل يعرف هذا الشخص أنَّ المؤسسات – لو فكر فيها قبل فوات الأوان – خير مُرسِّخ لاسمه؟ لأنَّه - وبكل ببساطة - المؤسسات لا تضعف ولا تموت بضعف أو موت أصحابها؛ بينما تموت الأنظمة وتدفن! كما أنَّ أكبر مُنجز ممكن أن يُسجل (لشخص) هو بناء مؤسسة لا تموت أو تضعف من بعده. وهنا يضرب لنا الله سبحانه وتعالى مثلاً في أهمية التقليل من الأشخاص في مقابل فكر المؤسَّسات، بقوله: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) الآية، لم يكن الإسلام دين محمد، على رغم أهميته، بل كان مؤسسة له دستوره ومنهجه، وفي الأثر أنَّ الله سبحانه يبعث على رأس كل مئة عام مجدداً يجدد للأمة دينها. هل هناك عمل مؤسسات أكثر من هذا؟! قطع تفكيري أحد الشباب الصغار يتجول في الميدان ويرفع لوحة كُتب عليها «بمناسبة مرور أسبوع على الثورة»، ابتسمت حينها، ليس على لوحة هذا الشاب، بل على مبدأ إحياء ذكرى الثورات، وتخيلت حينها هذا الميدان بعد عام من الآن وهو يعج بالأعلام والأناشيد والجماهير في يوم «عطلة» خُصِّص للاحتفال بيوم الثورة! حيث ينام الناس في النهار ويصحون للسهر ليلاً؛ مثل كل احتفالات الثورات والأيام الوطنية في الوطن العربي! لكني هنا تمنيت أن أرى في هذا الاحتفال - بعد عام أو بعد أعوام – مع يوم الإجازة المنتظرة ويوم الفرح المشروع، صحافة حرة ومؤسسات تؤمن بالفرد من دون النظر لانتمائه، تمنيت أن نرى مواطناً يملك كل حقوقه فقط، لأنَّه مواطن، وبغض النظر عن أي انتماءات أخرى، حينها فقط سيستحق هذا اليوم الاحتفال، ورفع الأعلام، والتمتع بالإجازة، احتفالاً ب «المكتسبات» وليس للنوم! وبعد جلسة ليست بالطويلة في هذا الميدان النظيف؛ قررت الرحيل، وخلال قيامي شتت تركيزي أحدهم يصرخ في وجه الآخر، وسيلتك الإعلامية التي تتابع مجموعة من العملاء والخونة، رد الآخر بل قناتك هي الجوفاء وخالية من أي مهنية، وقفت أتأمل هذا الجدل وقلت في نفسي: سبحان الله! هل أصبحت الوسائل غايات؛ بينما أصبحت أدوات الثورة الحقيقية وغايتها مجرَّد أدوات ووسائل لهذه المؤسَّسات الإعلامية! هل أصبح النقاش في صحفنا ووسائل إعلامنا (أي القنوات أفضل وأيها أكثر عمالة؟) بينما أهملنا الموضوع الذي جاءت كل هذه القنوات من أجله؟ كيف يرضى البعض، وفي هذا العصر، أنْ تُشكل اتجاهاته قناة تلفزيونية تمتلئ بالرأي وتوجيهه؟ ثم أين موضوع المواطن الذي بدأ يُعيد تشكيل تعريفه؟ وأين موضوع الوطن الذي بدأ يتغير تركيبه من كل هذا الصراخ الإعلامي؟ ضربت أطراف ثوبي من بقايا غبار هذه الجلسة الذي لم يكن كثيفًا بعد حملة التنظيف القائمة، ورحلت! عبدالله الحمد – الرياض طالب دراسات عليا - في الإعلام 3,[email protected]