شجاعة غير عادية امتلكها شباب ينتمون إلى جيل ذاق حلاوة الحرية افتراضياً وصمم على حقه في أن يعيشها واقعياً. نجح هذا الجيل في ما فشل فيه أسلافه على مدى أربعة عقود. أطلق ثورة شارك فيها ملايين جمعتهم أهداف مشتركة. التحموا وتوحدوا من دون أن يفقدوا تنوعهم واختلافهم وتمايزهم. ثاروا من أجل حرية كل منهم، فقدموا نموذجاً لثورة ديموقراطية لا بد أن تضيف إلى التراث الثوري خبرة جديدة. فهذه ثورة شباب عاش الحرية في فضاء «الإنترنت» الحر، ووجد فيها شفاء لعقله وروحه فأبدع في أساليب النضال من أجل تنزيلها إلى أرض طال شوقها إلى التحرر من القهر والظلم. وهذه، أيضاً، ثورة وضعها تمسكها الصارم بالحد الأقصى لأهدافها في مصاف الثورات الجذرية (الراديكالية) من دون أن يُفقدها ذلك محتواها الديموقراطي وطابعها السلمي اللذين بلغ إصرارها عليهما أعلى مبلغ. وهذه، كذلك، ثورة لعبت النساء بخاصة الفتيات فيها دور البطولة جنباً إلى جنب مع شبابها، بل رجالها جميعاً. وهذا ما ينبغي أن ينتبه إليه جيداً مؤرخوها، وأن يعنى به من الآن رواة أحداثها وموثقو وقائعها. كانت المرأة في قلب هذه الثورة منذ يومها الأول مشاركة في مختلف فاعلياتها، بما في ذلك الذود عن بؤرتها المركزية في «ميدان التحرير» عندما شنّ جاهليو سلطة مبارك «حرب الدواب» عليها في الثاني من الشهر الجاري. كن في الصفوف الأمامية في مواجهة الغزاة الذين امتطوا خيلاً وجمالاً وبغالاً شاهرين سيوفهم وهراواتهم، وساندهم حاملو زجاجات «المولوتوف» الحارقة. فكانت بين ضحايا تلك «الحرب» سالي زهران التي فاقت شجاعتها عشرات الرجال. وثورة هذه بعض شيمها لا بد أن يكون لها إبداعها الذي يعبر عن طابعها الحر عبر شعاراتها ولافتاتها وهتافاتها التي خلت تماماً من لغة خشبية سادت طويلاً. لم يكن هناك منذ البداية شعار جاهز أو آخر جرى «تصنيعه» أو «تعليبه» هنا أو هناك، بل اختار المشاركون الشعارات بحرية. فشارك كل من يرغب أو يستطيع في صوغها وصنع اللافتات بما أطلق طاقات إبداعية متنوعة. وأدى ذلك إلى نوع من التوافق التلقائي على شعارات تصدرت الثورة حتى إعلان تخلي حسني مبارك عن منصب رئاسة الجمهورية. كان للشعار الافتتاحي «عيش – حرية – كرامة إنسانية» دور مهم منذ البداية في تجنب الخلافات السياسية والفكرية، مثلما ساهم شعار «سلمية... سلمية» الذي رُفع منذ اليوم الأول في قطع الطريق على محاولة قوات الأمن استفزاز المتظاهرين وجرهم إلى مبادلة عنفها بمثله. كان كثير من شعارات ذلك اليوم امتداداً لما رُفع في تظاهرات سابقة. كان الشعار التونسي الأصل «الشعب يريد إسقاط النظام» ثانوياً في اليوم الأول. لكن الوحشية التي استخدمتها قوات الأمن في تفريق المعتصمين في «ميدان التحرير» فجر 26 كانون الثاني (يناير) جعلته شعاراً أساسياً اعتُمد بعد يومين في «جمعة الغضب» وصار معبراً عن الهدف الرئيس للثورة، واقترن به الشعار الآمر «ارحلْ» الذي كُتب باللغة العربية بطرق مختلفة وبلغات أجنبية. وعندما طولب المعتصمون في «ميدان التحرير»، وميادين عدة في مدن مصرية أخرى أبرزها ميدان الأربعين في السويس وميدان المنشية في الإسكندرية، بالمغادرة ظهر شعار «مش هانمشي... هو يمشي». وأبدع الثوّار الديموقراطيون في صوغ الشعارات التي تناشد الجيش المحافظة على حياده، وتعبر عن أمل في وقوفه معهم، عندما نزلت قواته إلى الشارع مساء 28 الشهر الماضي. ومن هذه الشعارات على سبيل المثال: «الجيش والشعب إيد واحدة» و «الشرطة قتلت فينا... وجيش مصر حامينا» و «الجيش المصري جيشنا... ومبارك مش رئيسنا» و «يا مشير يا مشير... احنا ولادك في التحرير». ولم يكف الثوّار عن مطالبة المصريين جميعهم الالتحاق بهم، على رغم الازدياد المستمر في أعداد المشاركين في التظاهرات والاعتصامات. فكان شعار مثل «يا أهالينا انضموا لينا... قبل بلدنا ما تغرق بينا» تعبيراً عن هذا المعنى. ورد الثوار على اعتقال بعضهم بتأكيد عدم خوفهم مستثمرين شعارات مثل: «مش خايفين مش خايفين... مهما تاخدوا معتقلين». وعبر كثير من لافتات الثورة عن خفة الظل المصرية، وخصوصاً تلك التي جاءت تنويعاً على الشعار «ارحل»، ومنها على سبيل المثال «ارحل الست حامل والولد مش عاوز يشوفك» و «ارحل حرام عليك... أهلي وحشوني» و «ارحل يعني امشي... يمكن ما بيفهمشي». ومن هذه اللافتات الخفيفة الظل أيضاً «عفواً... لقد نفدت مدتك يا مبارك» و «لو عفريت كان انصرف» و «لو انت جان الشعب هو سيدنا سليمان». وعندما انتشر الحديث عن ضخامة ثروة مبارك وعائلته، ظهرت شعارات مثل «حسني مبارك يا طيار... جبت منين سبعين مليار» ولافتات مثل«أغنى رجل في العالم يحكم أفقر شعب في العالم». ولجأ البعض إلى استخدام كلمات من أغان مشهورة مثل «يا مبارك فات المعاد وبقينا بعاد» و «لسّه فاكر مصر تديلك أمان». أما عندما أُعلن يوم 10 الجاري عن بيان ثالث لمبارك، وسرت توقعات بأنه سيعلن أخيراً التنحي عن السلطة بعد 17 يوم ثورة، كان شعار «هيلا هيلا... مبارك ماشي الليلة» تعبيراً عن حالة ترقب سادت ميدان التحرير والكثير من أنحاء مصر. ولأن التوقعات كانت كبيرة، جاء حديثه عن تفويض سلطاته إلى نائبه السيد عمر سليمان صادماً. كان المعتصمون في «ميدان التحرير» قد هيأوا أنفسهم لسماع خطاب التنحي، بل شرعوا في تهنئة بعضهم بعضاً. ولذلك جاءت الصدمة عنيفة فأشعلت غضباً فاق كل ما سبق، وانخرط البعض في بكاء حاد فيما سقط عشرات في حال إغماء. عندئذ بدأ المئات يدقّون على الحواجز الحديدية في «ميدان التحرير»، فخرج الصوت كما طبول الحرب، ورُفع شعار جديد تماماً «عالقصر رايحين... شُهدا بالملايين» في الوقت الذي بدأ البعض في التحرك صوب القصر الرئاسي في شرق القاهرة. أثار الشعار قلقاً لا سابق له منذ يوم «حرب الدّواب الجاهلية» (الأربعاء الدامي)، إذ بلغ الغضب أعلى مبلغ. كان القلق في صباح 11 الجاري من حدوث صدام قد تترتب عليه مذبحة للثوار بعد أن نجحوا في تجنب مثل هذا السيناريو المخيف لمدة 17 يوماً عبر إصرارهم على سلمية ثورتهم. غير أن اضطرار مبارك إلى التخلي عن السلطة بعد ساعات أدى إلى تبدل المشهد تماماً، إذ تحول الغضب الجنوني إلى فرحة هستيرية عمت مصر التي صار شعارها: «الشعب خلاص... أسقط النظام».