لعلي لا أذكر جديداً إن قلت إن الكهرباء في وقتنا الحاضر أصبحت من الضرورات التي لا يستغني عنها الغني والفقير والكبير والصغير، إذ يعتمد عليها في كل وسائل الحياة وبالتالي أصبح استهلاكنا للطاقة الكهربائية يزداد مع مرور الوقت، خصوصاً في فصل الصيف، لدرجة أننا بدأنا نستهلك أضعاف أضعاف ما نحتاجه! وقد قرأت في إحدى الصحف أخيراً عن الخطة الوطنية لترشيد استهلاك الطاقة الكهربائية ورفع كفاءة استخدامها في البلاد من وزارة المياه والكهرباء والوكالة اليابانية للتعاون الدولي «جايكا»، إذ لفت انتباهي ما ذكره وزير المياه والكهرباء حول تخصيص 20 مليون ريال كخطة لترشيد الكهرباء، وأن بلادنا استهلكت الصيف الماضي كهرباء بزيادة 10 في المئة عن العام الماضي، وهي زيادة تقارب كامل الطاقة المركبة في بعض الدول المجاورة! كما أن الاستهلاك الحكومي في السعودية يشكل 20 في المئة من حجم الاستهلاك - نهاية التصريح - والحقيقة أنني في هذا المقال لست بصدد الحديث عن الترشيد في الاستهلاك الذي يهدف إلى التوفير المادي وتوفير الطاقة الكهربائية في الوقت نفسه والذي هو موضوع الخطة الوطنية الآنفة الذكر... وإنما الحديث هنا يتعلق «بالاستخدام العشوائي وغير الواعي للطاقة الكهربائية وأثر ذلك على الأفراد والمجتمع»، وأقصد هنا بالاستخدام العشوائي في الأماكن العامة تحديداً بالدرجة الأولى، يأتي تبعاً لذلك الاستهلاك الشخصي. إن لحجم الاستهلاك الحكومي للطاقة الكهربائية التي ذكرها الوزير في تصريحه جانباً آخر أكثر أهمية وأشد ضراوة من الجانب المادي وأهمية ترشيده، إنه الجانب الأهم في حياة الناس والذي انعكس بشكل مباشر على طريقة وأسلوب الحياة اليومية للمجتمع وسلوكيات أفراده، وأثر سلبياً وبطريقة غير مباشرة في قدرات أفراد المجتمع وإمكاناتهم بمختلف أعمارهم ومستوياتهم، فعلى سبيل المثال ما نشاهده في وقتنا الحاضر من الطريقة المبالغ فيها بإضاءة الشوارع والأحياء داخل مدننا ليلاً الذي انعكس بدوره بدرجة كبيرة على تغيير أسلوب حياة الناس وتحول ليلهم إلى نهار، بل اننا أصبحنا نعيش بنهار سرمدي مخالفين بذلك الفطرة الإلهية العظيمة في تباين الليل والنهار، إذ الليل الذي يخيم فيه الظلام التدريجي ليضع فينا الدعة والسكون والهدوء النفسي والعصبي الذي بدوره ينعكس على السكون الجسدي والركون الى النوم والراحة في وقت باكر من الليل، ليبدأ البشر في الانتشار مع ساعات الصباح الأولى بكل همة ونشاط وحيوية واستعداد كامل للتعلم والعمل بعد ساعات نوم هادئ ومريح. لقد تحولنا في العقود الثلاثة الأخيرة وبالتقريب مع بداية طفرة الثمانينات وبشكل تدريجي وبمباركة من الجهات المسؤولة عن الإنارة المكثفة في الشوارع والميادين العامة والأحياء السكنية إلى مجتمع لا يفرق بين الليل والنهار، فمن يشاهد منظر مدننا ليلاً يشاهد كيف أن الليل قد تحول إلى نهار وأصبحنا نعيش بنهارين، نهار طبيعي، ويعقبه نهار مدبلج بسبب هذا الإسراف والاستخدام العشوائي والمبالغة في الإضاءة الليلية التي تستمر حتى ساعات الصباح الأولى. أصبحت المنازل والمساجد والمتاجر تحاكي الشوارع والأحياء في إضاءة ليلة عشوائية غير واعية ومستديمة، فمنازلنا تضاء ليل نهار بأضعاف ما نحتاج إليه، بل إن الإضاءة المنزلية أصبحت للاستعراض والتباهي أكثر منها للحاجة، وليس من المبالغة القول بأننا أصبحنا مع تلك الأنوار لا نستطيع النوم في منازلنا وداخل غرفنا إلا بواسطة إغلاق النوافذ تماماً وإسدال ستائر غامقة اللون لصد هذه الأنوار التي تأتينا من الخارج، أما أسطح المنازل فقد هجرها أهلها منذ أكثر من عقدين بعد أن كانوا يفضلون النوم عليها بسبب أنه لا يوجد بها ليل على الإطلاق بل نهار أبيض يعقبه النهار الأصفر إلى ما بعد شروق الشمس. في الوقت نفسه نجد أن الأمم المتقدمة فطنت لحكمة هذا التباين بين الليل والنهار وعملت على سن الأنظمة والقوانين التي تسهم في الهدوء الليلي وتساعد الناس على النوم والاستيقاظ الباكرين، فعملت على الزام المراكز التجارية والأسواق والمهرجانات والميادين العامة الاقفال قبل غروب الشمس والاقتصار ليلاً على ما هو ضرورة ولا يستغنى عنه ليل نهار كالمستشفيات والمراكز الأمنية ومحطات الوقود والصيدليات وبعض الأسواق المركزية التي يوجد بها بعض المستلزمات الضرورية والتي تعمل بشكل مقنن ومواقع محدودة، والأهم من ذلك هو الاقتصار على الاضاءات الموجودة في الشوارع العامة في مواقع متباعدة ومحدودة جداً حتى أنك لا تستطيع قيادة سيارتك ليلاً وسط المدينة من دون استخدام مصابيح السيارة، أما الأحياء السكنية فلا تشاهد إلا المصابيح الصغيرة بجوار أبواب المنازل الخارجية والتي لا تعدوا أن تضيء جزءاً بسيطاً أمام باب المنزل ومن دون أن تكون هناك إضاءات صارخة ذات أعمدة مرتفعة كما هو في الأحياء السكنية لدينا، ويبدو أن ذلك له الدور الكبير في إشاعة الهدوء وقلة الضجيج الليلي. واختم مقالي هذا بقصة لقاء طريف قام به أحد الصحافيين مع رحالة أجنبي زار العديد من دول العالم مروراً بدول الخليج العربي وقد سأله هذا الصحافي عما لفت نظره خلال زيارته لمنطقة الخليج فأجاب هذا الرحالة بأن ما أدهشه خلال وجوده في الخليج هو قدرة المجتمع على مواصلة الليل بالنهار من دون نوم، حيث أنه خلال مدة إقامته لم يلحظ أي فرق في حياة المجتمع بين الليل والنهار.