بين التحول إلى مدينة أشباح بعد نزوح سكانها، أو اعتمادها كوجهة سياحة جديدة داخل الأراضي السعوية، تبقى العيص صامدة في رحلة الصراع مع الهزات الأراضية المتلاحقة التي تضربها بشكل شبة يومي. المشهد الذي رصدته «الحياة» خلال جولتها على العيص أمس، شكلت ملامحه ناقلات الجهات الرسمية الكثيفة التي يجوب أفرادها المنطقة تحسباً لأي ظرف، إضافة إلى أعداد المارة في المنطقة، التي تحولت إلى مزار يرتاده الإعلاميون و«الفضوليون» للوقوف على آخر التطورات من قرب. وعلى رغم أن الدخول إلى العيص أمر غاية في الصعوبة، خصوصاً مع وجود بوابة تحظر دخول المركبات، إلا أن مسنَيْن جاءا خصيصاً من منطقة القصيم بدافع الفضول، فوضعا إثباتاتهما الشخصية عند البوابة، بهدف الدخول إلى المدينة، «ليشاهدا ما سمعا عنه مباشرة». رهبة المنظر تنتاب الداخل إلى المدينة ل«أمر» قد يحدث في أي وقت. ليس هناك سوى بيوت واقفة بصمت، وقطط تأكل من خشاش الأرض، أملاً في أن تجد قطعة من اللحم تملأ جوفها. كل شيء في هذا المكان بات حزيناً. إلا أن أصوات الكثير من الأغنام التي تركها أهلها إلى جوار منازلهم المهجورة تبعث نوعاً من الحياة، حياة تنتظر كل يوم قدوم رعاتها لإطعامها. وهذا ما يحصل مع منصور الجهني (35عاماً)، يقول: «تركنا منزلنا منذ أسبوعين واستقرينا في ينبع، لكني أحضر كل يوم أو يومين لأطعم أغنامي، فقلبي تركته معها». وأوضح أن زوجته معلمة في العيص، ونقلت مباشرة إلى إحدى مدارس ينبع، بعد أن وفرت لها وزارة التربية والتعليم مدرسة تكمل عامها الدراسي فيها بهدوء. أما غازي السناني فيتحدث والحزن يسكن ملامح وجهه، يذكر يوم الإجلاء، وكيف كانت الدموع تعبر عن مشاعر الأهالي الذين هجروا منازلهم، سارداً تفاصيل لحظات صعبة في المنطقة عندما كان يسمع الزلزال، يقول: «في البداية كنا نسمع أصواتاً كالرعد وبعد أيام أصبحنا نشعر بالزلازل مع اهتزاز النوافذ والأبواب، وقدوم بعض الحيوانات التي تسكن الجبال، ومع الهزة الكبيرة شعرنا أن كل شيء في منازلنا بدأ يتصدع وقلوبنا أيضاً. بعدها لم نجد خياراً إلا الفرار». ويضيف: «اليوم نسكن شقة مفروشة في ينبع ولا يمر يوم إلا وأعود إلى منزلي وأراقبه، ولا أعلم ما الذي يدفعني كل يوم للسير مسافات طويلة من أجل أن أراقب فقط». ويستوقف المار في أحد شوارع العيص مشهد إمرأة كبيرة في السن تبكي. «لا أرغب في الخروج من منزلي ولكن ولدي أخذني عنوة، خوفاً علي، أنا لا أخشى الموت فالله واحد والموت واحد، وأريد الموت في منزلي الذي قضيت شبابي فيه». وتضيف: «نحن هنا لأخذ أغراض لنا. الخوف والهلع لا يدعك تفكر، وقلبي الآن هو من يتصدع وليس الأرض، ألم الفراق عن منزلي، وأشكو إلى الله همي. كم أتمنى أن أعود إلى داري». عند الغروب كل شيء خاو، عليه هيبة الصمت، كأن المدينة تحولت إلى مدينة أشباح، لا صوت يسمع سوى صفير الرياح، يقول إن العيص سجلت اسمها تاريخياً كأول مدينة سعودية يجلى منها سكانها.