بادرت بعض القوى الخارجية بالمزايدة على الثورة الشبابية المصرية، التي أكدت أنها ديموقراطية ومدنية منذ البداية، فحاولت إيران تصويرها على أنها ثورة إسلامية ونتاج للخمينية، وهو ما رفضته قوى الثورة جميعها، كما زايدت عليها سورية، قائلة إن ثورة مصر ستُسقط معاهدة السلام مع إسرائيل، وهو ما دحضه بقوة بيان المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم. ما لم يعترف به المزايدون هو أن تداعيات هذه الثورة قد تمتد وتدك حصوناً أخرى، ما لم تحصل في العالم العربي إصلاحات حقيقية وديموقراطية، وليس شعاراتية فحسب. ولسان الحال المصري الجديد يقول إن الجيش المصري بعد استلامه السلطة قد تَفَهَّمَ شعبَه وآمن بحقه في حياة ديموقراطية سليمة وصحيحة، فيما الشعب مستعد لأن يبذل في سبيل الإصلاح الدماء مجدداً. ومن المهم أن نشير هنا إلى متغيرين هامين طرآ على مسار الثورة المصرية، التي انطلقت شرارتها في 25 كانون الثاني (يناير) الماضي، ومكّنَا لنجاحها رغم أنهما لم يكونا متوقعَيْن بشكل كبير: أولهما، موقف الجيش وثبوت انتمائه للشعب أكثر مما للنظام، وهو ما كانت الهواجس حوله تدور منذ اليوم الأول للثورة وتأكد في يوم نهايتها، 11 شباط (فبراير)، ثم ما كان بعده من التعهد بتسليم السلطة خلال ستة أشهر لسلطة مدنية منتخَبة، وغير ذلك من التعهدات التي أكدت الثقة بوطنية القائمين عليه وتجردهم، وكان إضفاء الشرعية على المطالب الثورية والديموقراطية هو الأكثر تكراراً وتأكيداً في مختلف بياناته، وهو ما يعني اتحاده وإيمانه السابق بها، لأن الفساد والاستبداد كانا قد زكما أنوف الجميع، شعباً وجيشاً! وثانيهما: ولعله مهَّد للمتغير الأول وثبوته، هو دحض المطالب الفئوية التي دخلت على الخط في اليوم الأخير قبل تخلي مبارك عن السلطة، وتسليم الأمر للقوات المسلحة، حيث غدت الثورة زخماً شعبياً كاسحاً لا يقوى أحد على الوقوف أمامه، وفَرَضَ ضرورة تنحي الرئيس!.. فأتى تخلي مبارك عن السلطة لصالح المجلس الأعلى للقوى المسلحة، اختياراً أو اضطراراً، درءاً لصدام دموي محتمل لم يستطع أحد الجزم باستحالته، كما أنه عصم البلاد من احتمالات فوضى مفتوحة لا تزال بعض آثارها قائمة في ظل استمرار غياب الأجهزة الأمنية بعد تلاشيها، وهو ما يجعلنا نؤكد أن الثورة المصرية إصلاحية وليست مطلقة الراديكالية. فقد بقي النظام، بتسلم الجيش سلطات الرئيس، كما نجحت الثورة، وتصالحا واستوعب أحدهما الآخر، وفهم الجيش الشعب أكثر مما فهمه رئيسه السابق ومساعدوه، وصرنا فعلياً وجهاً لوجه أمام عملية انتقال سلمي ومنظم للسلطة. وتبقى فقط مكافحة الفساد وملفاته الثقيلة من الحقبة السابقة، التي نرجو ألا تُلقى خلالها الاتهامات جزافاً ولا يُتهم بريء حتى تثبت إدانته، ولنتجاوز- جميعاً - منطق الثأر والتشفي نحو الموضوعية والإنصاف. وجدير بالذكر أن الاتهامات في الحقبة السابقة شملت بعض أدعياء البطولة الملتحقين بقطار الثورة الآن، لذا من الضروري أن نؤكد على مبدأ العدالة الانتقالية وعلى الشفافية، وتفعيل أحكام القضاء، والإصلاح الحكومي الشامل، وبالخصوص الإصلاح الأمني، وعودة مؤسسات الدولة وضبط إيقاعاتها ومطلبياتها كأولويات تعبِّد طريقنا جميعاً نحو بناء مصر الجديدة، دون أن ننجرف لفوضى التشكيك والتشفي وحروب الكاميرا طويلاً! لقد ضمن الجيش للأمة والمجتمع هندسة ديموقراطية ومشارَكة حرة في بناء مصر الجديدة، ولكنه ضَمِنَ للدولة وللعالم معها التزاماتها وتعهداتها الدولية التي وقّعت عليها مصر، والتي تضم معاهدة السلام مع إسرائيل، مؤكداً أن عينه على الداخل، على مصر دون انتفاخ، على بناء دولة قد هُتك الكثير من قواعدها وترهل كثير من مؤسساتها في العقود الأخيرة. ومن هنا حرص الجيش على تنويع أعضاء لجنة التعديلات الدستورية، وفق المواد التي حددها الرئيس السابق، فضمت الأستاذ الكبير الحكيم طارق البشري، وعدداً من أساتذة القانون الدستوري من مشارب مختلفة، والذين يعبر كل منهم عن توجه معين، ليتم التعديل في مواد لن تفجر خلافاً بين القواعد والتوجهات السياسية والاجتماعية والطائفية، إلى حين انتخاب برلمان جديد يحدَّد - وفق إرادة الشعب - دستورُه وقوانينه بما يكفل لمصر في هذه الفترة الانتقالية إجماعاً وطنياً منظماً من أجل غد أفضل. لننشغل بالديموقراطية وببناء مصر التي قدمت ثورتُها نماذجَ بليغةً في التضحية والإبداع والتجرد، وصدقت فيها دعوة محمد السيد سعيد لنخب جديد بديلة، فقد غابت عن المشهد مخاوف مَن راهن على تكرار سيناريو العسكر سنة 1954، حيث رُفعت الشعارات المنتفخة بعد النجاح في قمع إرادة الأمة والشعب على مختلف تنوعاتهما. فمصر الآن وفقط، وليس المعركة مع غيرها، أو حتى تصدير ثورتها الناعمة، التي تتوالى تداعياتها من إيران إلى الجزائر مروراً بالبحرين وعمان والأردن وربما غيرها في الطريق. * كاتب مصري