صدر حديثاً للدكتور محمد عثمان الخشت كتاب «نحو تأسيس عصر ديني جديد» عن دار «نيوبوك» بالقاهرة، ويقع فى سبعة فصول، وصفحاته 244 من القطع الصغير. يحاول الخشت في هذا الكتاب أن يطرح رؤية يعتقد أنها رؤية جديدة فيرى: «أن الإسلام الذي نعيشه اليوم هو خارج التاريخ ومنفصل عن واقع حركة التقدم، ولذلك باتت من الضرورات الملحة اليوم العودة إلى الإسلام المنسي لا الإسلام المزيف الذى نعيشه اليوم، ولا يمكن هذا إلا بتخليص الإسلام من (الموروثات الاجتماعية) و (قاع التراث) و (الرؤية الأحادية للإسلام)» . ويدين الخشت حركة الإصلاح الديني التي ظهرت في الفكر العربي فيقول: «والجديد مع حركة الإصلاح الديني الحديثة منذ القرن التاسع عشر أنها أنتجت أجيالاً وجماعات تتكالب من الداخل على أمتها ووطنها، وهم شركاء أصليون في حالة الضعف التي تعيشها، وهم فاعلون بامتياز في بذل الوسع في هدم المعبد على كل من فيه من خصومهم» (ص39) ونحن نتساءل ما مدى مسؤولية أعلام الفكر الإصلاحي أمثال خير الدين التونسي، والطهطاوى، ومحمد عبده، والكواكبي، ومالك بن نبي، وأمين الخولي وغيرهم ممن قدموا فكراً إصلاحياً مستنيراً، عن هدم المعبد؟ فليس لهؤلاء علاقة بتخلق حركات وجماعات العنف والإرهاب، بل المسؤولية تقع على الأنظمة السياسية والقوى العالمية التي شاركت في صناعة هذه الجماعات، وهو ما لم يشير إليه الخشت في كتابه. ويعيد الخشت اتهامات مالك بن نبى لحركة الإصلاح الديني بأنها لم تقم بأى محاولة يفهم منها تطوير علوم الدين، بل قاموا «بإحياء علوم الدين» كما تشكلت في الماضى، ولم يقوموا بالعودة للإسلام في نقائه الأول، بل عادوا إلى المنظومة التفسيرية التي أنتجتها ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية لعصور غير عصورنا، ومن هنا استعادوا كل المعارك القديمة، معارك التكفير، ومعارك الهوية، ومعارك فقه الحيض والجنس والجسد،... ولم يدخلوا المعارك الجديدة، معارك التنمية، ومعارك إنتاج العلوم الطبيعية والرياضية، ومعارك الفساد، ومعارك الحرية، ومعارك الفقر والجهل والأمية» (ص42)، ولا شك في أن الخشت هنا يجهل أو يتجاهل عن عمد ما قدمه الإمام محمد عبده، والشيخ أمين الخولي وغيرهم من محاولة تجديدية كبيرة يعجز عنها الخشت فى مجالات الفقه والتفسير وعلم الكلام. ويرى الخشت أن أول الطريق هو اتباع منهجية الشك- التي اتبعها إبراهيم عليه السلام في بحثه عن الله، وأيضاً اتبعها ديكارت في قواعد منهجه للشك في ما ورثناه عن القدماء والسابقين، وذلك لأنه يرى «أننا لن ندخل عصراً دينياً جديداً من دون إصلاح مناهج التفكير لإحكام قيادة العقل نحو الصواب» (ص32). وعلى رغم اتفاق الخشت في دعوته إلى منهج الشك الديكارتي مع طه حسين فى كتابه «فى الشعر الجاهلي»، إلا أن الخشت حدد لمنهج الشك مساراً معيناً وحدوداً معينة وهي حدود التعامل النقدي للعلوم التي نشأت حول الدين لأنها علوم إنسانية تقصد إلى فهم الوحي الإلهي، فالقرآن إلهي لكن علوم التفسير والفقه وعلوم مصطلح الحديث، وعلوم الرجال، أو علم الجرح والتعديل... إلخ علوم إنسانية أنشاها بشر، وهي قابلة للاجتهاد والتطوير والتطور، وهذه مسألة واضحة لكن المتعصبين الذين تجمد معهم كل شيء رفضوا الاجتهاد وتمترسوا خلف التقليد» (ص40). ويرى الخشت أن تجمد العلوم التي نشأت حول القرآن قد حولت النص القرآني ذاته من نص ديناميكي يواكب الحياة المتجددة إلى نص استاتيكي يواكب زمناً مضى وانتهى. ومن ثم فإن الخشت يرى أن العلوم الدينية قد خلقت نسيجاً من الجمود حول النص القرآني الحي، وهو يدعو إلى تفكيك هذا النسيج الجامد من المفاهيم التاريخية، ويقول بأن علينا «أولاً أن نقوم بعملية تفكيك للخطاب الديني القديم الذي أوصل أمتنا إلى ما وصلت إليه من خلل في التصورات والرؤى الحاكمة ليس للوجود والعالم فقط، وإنما للواقع المعيش، وحركة التاريخ، ومنطق التقدم» (ص46). وبدعوة سلفية حالمة ورومانتيكية يسعى الخشت إلى تأصيل العودة إلى الينابيع الأولى متفقاً مع سيد قطب في كتابه «خصائص التصور الإسلامى» فيقول: «إن التفكيك الذي يريده هو تفكيك يريد العودة للمراكز الأولى للعلم والفكر والدين، وبهذه العودة يتم الالتقاء المباشر مع الدين الأول الخالص فى نقائه وخصوبته الأولى، وبالتالي سوف تنهار كل تلك مذاهب المغلقة، والمراكز المزيفة التي اصطنعها التطرف والاستبداد، كما سوف تنهار كل التأويلات البشرية وفقهاء البحث عن السلطان، وهنا تصبح الأرض ممهدة لتأويل جديد يأخذ بأسباب الاجتهاد، ويأخذ بأسباب العصر» (ص48-49). وينتقد الخشت سيادة العقل المغلق الأحادي التفكير «لأن صاحب العقل المغلق لا يستطيع أن يتجاوز ذاته أو عالمه الخاص، ومن المستحيل أن يرى شيئاً خارج عقله، ولا يستطيع أن يتجاوز أفكاره المظلمة، ولا يمكنه أن يرى غير أفكاره هو، ويعدها يقينية قطعية لا تقبل المناقشة، بل يصل به الحد إلى الاعتقاد بأنها ذات طابع إلهي، وأن الله تعالى معه، بل إنه ممثل الله على الأرض، والله ليس رب العالمين بل ربه هو فقط» (ص61). ومن ثم ينتقد الخشت الرؤية الأحادية للإسلام لأنها تنظر إلى الإسلام من زاوية محدودة وضيقة، ولذا ينتقد الخشت أحادية النظرة الإسلامية المتشددة، وكذلك أحادية التوجهات العلمانية فى موقفها من الدين، ويرى الخشت أن التيارين على رغم تعارضهما يشتركان فى مجموعة من الصفات التي تجعل الصراع بينهما صراعاً عقيماً، وأهم صفة مشتركة بينهما هي «وهم امتلاك الحقيقة المطلقة» فكلاهما يزعم أنه وحده الذي يعرف الحقيقة، ويمتلك مفاتيح الخلاص، ولذلك فكلاهما متعصب وكلاهما دوغماطيقىي، وكلاهما يجرنا إلى حافة الهوية» (ص75-76)، ولكن على رغم نقد الخشت للعقل المغلق، ونقده للنظرة الأحادية للإسلام، فهو نفسه يروج بعقل مغلق سلفي، ونظرة أحادية لفترة صدر الإسلام على أنها الحلم الذي ينبغي أن نعود إليه لنستقي رؤيتنا للإسلام. ويرى الخشت أن تخلف التعليم أحد أهم أسباب مشكلة الإرهاب، وذلك بجوار الأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، «فمناهج التعليم القائمة على التلقين لا تصنع عقولاً إيجابية منفتحة، بل تصنع عقولاً مغلقة غير منتجة، وغير قادرة على رؤية نفسها، ورؤية العالم بطريقة منضبطة، ولا تملك مهارات البحث والفهم والتحليل والاستنتاج والنقد الموضوعي والابتكار، وغير قادرة على تحويل الفكر العلمي إلى خريطة عمل، وعاجزة عن ترجمة خريطة العمل إلى واقع جديد» (ص99)، ولذلك يعتقد الخشت أن التعليم هو قضية أمن قومي ولا يمكن الخروج من هذه الحالة إلا من خلال التحول الجذري إلى مناهج عصرية، وأن نستفيد من الدول المتقدمة، وأن يستهدف هذا التعليم بناء عقول منفتحة، ويعيد الخشت تكرار آراء طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» حول التعليم وأهميته في النهضة، وأننا في حاجة إلى احداث ثورة تعليمية في حياتنا المعاصرة، ولا شك في أن تلك نقطة مضيئة في معالجة الخشت فالتعليم هو بيت القصيد. ويعقد الخشت فصلاً فى كتابه بعنوان «تجديد المسلمين» يطلب فيها تغيير رؤية العالم فى مخيلتهم لأن هذه الرؤية هي الأساس النظري للفهم والتفكير، وهي التي تضع المحددات التي في ضوئها يتشكل الفعل وطرق التعامل والتفاعل مع العالم المحيط وعناصره، فرؤية العالم هي الإطار العام الذي نفهم به كل ما يحيط بنا: الكون والحياة والناس، ومستويات الوجود، والثقافات العالمية، بل هو الإطار الذى نفهم به أنفسنا أيضاً، وعلى هذا فإن وظيفة رؤية العالم هي وظيفة معرفية، وهي نقطة البدء فى تغيير المسلمين، فالمسلمون اليوم يملكون رؤية عقيمة عن العالم، وهي رؤية تتقاطع مع الرؤية السحرية اللاهوتية للعالم، والتي تقوم على رؤية العالم محكوماً بالسحر والسحرة والعفاريت والأشباح، والأعمال السفلية والقوى الغيبية الخارقة تارة أخرى، أما قوانين الطبيعة فهي شيء طارئ وثانوي، والعلوم الرياضية والطبيعية من النوافل فى التعامل مع الكون، وأيضاً العلوم الإنسانية والاجتماعية هي آخر شيء يمكن اللجوء إليه لحل مشكلات المجتمع أو الفرد، بل هي غير حاضرة في أي منهج يدرس العلوم الدينية التي تعتمد كلية على النقل والحفظ والترديد (ص132-133). ويعيد الخشت– دعوة محمد عبده وأمين الخولي - التركيز على الدعوة بأهمية ترسيخ السببية في نظرتنا للعالم والوجود، لأنها يمكن أن تسهم فى التقدم والرقي. والواقع أن كتاب الخشت الجديد «نحو تأسيس عصر دينى جديد» على رغم أنه يحمل على الحركة الإصلاحية العربية، إلا أنه لم يخرج في إطاره العام عن آراء تلك الحركة، ولكنه فقط اختلف عنها فى القالب اللغوي الذي عرض به أفكاره حيث قام بتوظيف بعض المفاهيم الجديدة في المنهجيات الحديثة عند ديكارت، وجاك دريدا، وغيرهما، فالكتاب هو دعوة قديمة في قالب جديد، وإن كان لا يخلو من ومضات ثاقبة أحياناً، كما يحسب له أنه كتب بلغة مبسطة لأن الكتاب في الأصل هو مجموع مقالات كتبها الخشت في جريدة «الوطن».