ندر أن اشتمل كتاب واحد على كل هذا القدر من المكابدات والمسرات وآلام الغربة والمنفى والانصهار الصوفي بالأرض الأم، كما هو حال كتاب «هتاف الروح - شعراء أرمينيا»، الذي حولته الكابتة جولي مراد باختياراتها وترجمتها الى جدارية واسعة لشعراء من مختلف العصور جسدوا خلال قرون طويلة عذابات الشعب الأرمني وبطولاته وتصميمه على البقاء. فالكتاب الحدث يبدو من بعض وجوهه محاولة رائدة لمنع الذاكرة الأرمنية الجمعية من التشظي تحت وطأة الموت والقهر والاضمحلال. وقد استعانت المؤلفة لتحقيق ذلك بصلوات القديسين الأوائل الذين نفحوا التراب الأرمني بضوع أرواحهم وأنفاسهم، كما هو حال القديس مسروب ماشدوتس في القرن الرابع الميلادي، مروراً بمنشدي القرون الوسطى على طريقة التروبادور، وصولاً الى آخر رموز الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين. واذا كان الشعر بوجه عام هو أحد أكثر الأشكال الأدبية اتصالاً بروح الأمة وتعبيراً عن متحدها القومي، فهو بالنسبة الى الأرمن يكتسب قيمة مضاعفة لأنه كان التجسيد الحي لكفاحهم المأساوي من أجل البقاء، وللتعبير عن تشبثهم بأهداب الكرامة والحرية والانتصار على الموت. وهو ما يعكسه قول ربيعة أبي فاضل في مقدمة الكتاب: « نظر الأرمن الى بلادهم على أنها أورشليم السماوية، فهم لا يميزون الأرض من الكنيسة لأن الايمان بالأرض الأم هو جزء كياني من الإيمان بالإلوهة وعالم الروح. وإلى جانب الأرض والكنيسة هناك الشعر والفن، ومن دونهما لا يكتمل مثلث الذات والأمة». المشقات والآمال لن يجد القارئ في الكتاب، الصادر عن دار المراد وجامعة القديس يوسف، والذي تتجاوز صفحاته المئات الأربع، سوى نصوص لصيقة بالوطن وأهله وتاريخه الحافل بالمشقات أو الآمال، فضلاً عن مسحة لاهوتية متحدرة من طبيعة العلاقة الوثيقة بين الدين والتاريخ، كما بين المكان وظلاله الوجدانية والروحية. ومن يقرأ الأناشيد والتراتيل الدينية المنسوبة الى قديسي العصر الوسيط وكهنته لا بد أن يلاحظ ذلك الحبل السري المعقود بين جسد أرمينيا وروحها، كما بين الشعر واللاهوت في النصوص المنسوبة إلى القديسين نرسيس شنورهالي ومسروب ماشدوتس، أو بين الشعر والفنون الأخرى كما ينعكس جلياً في قصيدة «الكمنجة» لسايات نوفا في القرن الثامن عشر، حيث نقرأ «من سائر الوتريات كلها/ وحدك تماثلين كمنجات عشراً أيتها الكمنجة/ فالمرء العادي لم يفقه كمالك ولن/ أيتها الكمنجة/ إن قوسك إبريز صادح الأنغام/ وألحانك ألوان قوس الغمام/ وأشعارك أضواء وشدو قوافٍ...». ومع ذلك فإن الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن الذي تلاه هما اللذان أنجبا العدد الأكبر والأكثر تميزاً من المبدعين الأرمن. فباستعادة سريعة لفهرس الشعراء الذين يضمهم الكتاب وللنصوص المترجمة يتبين لنا أن تلك الحقبة المفصلية من التاريخ هي التي شكلت على قسوتها المفرطة العصر الذهبي الأكثر تألقاً للشعر الأرمني. ربما لأن الفترة السابقة على إلحاق أرمينيا بالاتحاد السوفييتي كانت فترة اجتراح الأحلام المتصلة ببلورة المشروع القومي من جهة، وبجوهر الشعر ومعناه من جهة أخرى. وإذا كان الأدب الروسي الذي شهد قمة مجده في حقبة الإرهاص بالثورة وتحولاتها الكبرى، بحيث لمعت أسماء كبيرة من وزن بوشكين وليرمنتوف وغوغول وتولستوي ودوستويفسكي، قد آل الى ضمور نسبي بعد تحول الثورة الى سلطة قامعة، فإن الأمر نفسه لم ينسحب على الأدب الأرمني الذي وفرت له المذابح والنكبات وحملات التنكيل والتهجير نيرانه المتعاظمة ومادته التي لا تنضب. ومع ذلك فإن قدراً من التشابه لا بد أن يلحظه المرء بين المصائر الفاجعة للشعراء الروس الذين قضوا في شرخ شبابهم منتحرين في حقبة ما بعد الثورة، كما حدث لماياكوفسكي وإلكسندر بلوك ويسينين وغيرهم، وبين المصائر المأساوية للشعراء الأرمن المشتتين بين الوطن الأم وبين منافي العالم وأصقاعه. ليس ضرباً من ضروب المصادفة المحض أن يقضي عشرات الشعراء الذين جسدوا أعمق ما يحمله الشعب الأرمني في داخله من مكابدات روحية وتطلع الى المستقبل المشرق متأثرين بمرض السل، كما حدث لماتيوس زاريفان (1884- 1924) ولبيدروس توريان، الذي لم يمهله المرض نفسه أكثر من عشرين عاماً من العطاء المدهش والذي يذكرنا بنظيره الإنكليزي الرومنطيقي جون كيتس الذي لم يتجاوز السادسة والعشرين من العمر وحلم ذات مرة أن يتحول الى نجم ساطع في سماء العالم. وفي قصيدته «شكوى» يقول توريان:»أرحل مثل نجم أنا نحو الفضاء الأعلى \ لأزيد أنجم السماء نجماً \ وما الأنجم الا أطياف صفاء \ أرواح مطعونة بائسة \ تتهادر غضباً \ وتهب لاعنةً لتحرق جبين السماء الغض \ أنت يا الله منحت جبهتي الورد \ ألبست لهب الصبا المتقد عينيّ \ وما لبثت البهجة أن انتزعت \ وقصفت أجنحة روحي المحلقة نحو جيد السماء اللؤلؤي». كذلك قضى كاريكين بيتشكوتوريان بالمرض نفسه عن ثلاث وعشرين سنة، محولاً نفسه الى ناي مجروح في برية الألم الأرمني، ومثله قضى فاهان ديريان قبل أن يبلغ الأربعين. وقضى هوفانس توميان بالسرطان، وقضى مساك مزارنتس بداء الرئة في مطالع عشريناته. والذين أخطأهم المرض في تلك الفترة كان ينتظرهم الموت قتلاً، كما هو حال إندرا ودانيال فاروجان وروبن سيفاك. بعد صوفي جسد أدوم يارجانيان الملقب بسيامنتو، الذي مات مقتولاً هو الآخر، ذروة العلاقة بين الوجدانين الفردي والجمعي في ما كتبه من قصائد. وإضافة الى البعد الصوفي ذي الطقس اللاهوتي في شعره، والذي تبدى واضحاً في قصيدة «الرؤيا» اتسمت قصائده بروح الالتحام بالأرض والانصهار في أتونها الإعجازي، كما في قصيدته «حفنة رماد» التي يقول فيها: « غداً حين أموت \ ثق يا بيت موطني أن روحي الفجوعة \ تحوم على روابيك السود \ تندب انسياب الجراح مثل يمامة ثكلى \ ولكن قل لي من يأتيني بحفنة رماد من أرضك المقدسة \ فأمزجها برفاتي \ رفاتي الذي يغنّي وطني». من الصعب بالطبع أن نقف عند كل واحد على حدة من الشعراء الأرمن الذين لم تمنعهم ثقافتهم الإنسانية الواسعة وإتقان معظمهم العديد من اللغات، من الالتفاف الحميم حول الشجرة التي سقتها بلادهم بشلالات من الدماء والدموع والقصائد وعرق الجباه. غير أن من الصعب أيضاً أن نتجاوز بعض الأسماء التي رفعت الشعر الأرمني الى المستوى العالمي، وفي طليعة هؤلاء يغيشه تشارنتس، الذي ترجمت بعض أعماله الى الكثير من لغات الأرض ومن بينها العربية. وهذا الشاعر المناضل، الذي قتله ستالين عام 1937، عرف كيف يفيد من المخزون الأسطوري والملحمي لبلاده المرفوعة دائماً على صليب آلامها، وابتكر في شعره أنماطاً وأساليب جديدة دفعت لويس أراغون الى وضعه في مصاف الشعراء الكبار من أمثال إيلوار ولوركا وماياكوفسكي. على أن موضوعاته ظلت تتغذى على رغم ذلك من نسغ تراب أرضه الذي أورثه الحب والصلابة ورهافة الإحساس والشغف بالحرية في وقت واحد: «أنا لفظ أرمينيا العذب \ المطيّب بطعم الشمس \ أحبُّ أوتار قيثارتنا التراثية النادبة والشجية النغمات \ أحب سماءنا المطرزة بالغمام \ بحيرتنا النورانية \ ماءنا الصافي \ فحيح الرياح \ بهاء ثلوج الشتاء \ جدران الأكواخ السود الخالية من الأنام \ وصخور المدن لآلاف الأعوام». رياح الأرض وإذا كنت قد أشرت سابقاً الى بعض تجارب الرياديين من أمثال بيدروس توريان وسيامنتو ودانيال فاروجان وفاهيان تيكيان وآخرين غيرهم، فإن من غير الجائز أن نغفل التجارب المتأخرة للشعراء الأرمن الذين توزعوا بين رياح الأرض الأربع، وبخاصة أولئك الذين وفدوا الى لبنان واستقروا في ربوعه، ومن بينهم موشيغ أشخان وأنترانيك زاروغيان وفاهيه فاهيان ورازميك نافويان الذي حوّل الطبيعة الى منصة دائمة لرفع الصوت ضد وحشة العالم وخوائه «شقّي لحاءك أيتها الشجرة \ خذيني به وغلفيني \ أبعديني عن هذا الزمن الأجرد الخالي من الزهور \ خبئيني كأسىً دفين \ لأشع بحزني \وأتدثر برقادي». لا بد في اختتام هذه المقالة من التنويه بالجهود المضنية التي بذلتها جولي مراد لكي توفر لهذا الكتاب كل أسباب النجاح، على مستويات الترجمة والتنقيب عن المصادر واختيار اللوحات والرسوم الموازية لجمال النصوص، كما على مستوى الإخراج المتقن للعمل. على أن التأمل الموضوعي في النصوص المختارة يوجب الإشارة الى أنماط من الخلل في ترجمتها العربية تتراوح بين التركيب النحوي الركيك وغير المبرّر في مقاطع من مثل: «معضلة حلوة حالي تأسر \ همّ جديد في الفؤاد يرعد \ كأنما يدها روحي تداعب». فإذا كان النحو الأرمني مختلفاً عن مثيله العربي، فليس على المترجمة أن تقلب الجمل في شكل متعسف، التزاماً منها بالنقل الحرفي أو بحثاً عن موسيقى ما، تقوّض بناء الجمل وسياقاتها. وكان من الأجدى والأجمل أن تكتب النص على الشكل التالي « تأسر حالي معضلة حلوة \ في الفؤاد يرعد همٌّ جديد \ وكأنما يدها تداعب روحي». كما أن استمراء البحث عن الإيقاع والموسقة حوّل بعض النصوص الى سجع غير محمود، كما في هذا المقطع: «مغزل الأمس تبرمين \ مغزلنا القديم تديرين \ حكايات الأمس تسردين». إلا أن هذه الملاحظة لا تنسحب سوى على القليل من النصوص، في حين احتفظت النصوص الأخرى المرسلة بالكثير من الوهج والسلاسة وكهرباء العصب الأصلي وحرارة الصرخات الحارقة التي أطلقها الشعراء الأرمن في وجه اليأس والموت. قد تكون صرخة الشاعر هوفهانس شيرازهي المعبّر الأمثل عن وجدان أحد أكثر الشعوب تعرضاً للظلم والاضطهاد عبر التاريخ ، حين كتب في وصيته: «أريد أن يُطمر قلبي في حضن أرارات \ حتى لا يبرد ولا يتجمد \ وليظل هانئاً \ ودافئاً بنيران ثلوج الحنان».