بدا المشهد زلزلالياً أمس في قرية طانا الواقعة على مشارف الأغوار في الضفة الغربية: بيوت سُوِّيت بالأرض... أعمدة ترتفع من بين أنقاض مدرسة هدمتها الجرافات... أكوام من الفراش والأثاث المتواضع غطاها أصحابها بقطع بلاستيكية لحمايتها من المطر المتقطع... وأغنام تائهة في الخلاء بعد أن فقدت حظائرها. لكن فرضية الزلزال سرعان ما تتلاشى بعد رؤية مباني مستوطنة «ماخوراه» المقامة على أرض هذه القرية: بيوت ذات أسطح كرميدية حمراء وحدائق وطرق وسيارات وأعمدة كهرباء. غير ان الخراب هنا يفسر العمار هناك، فسلطات الاحتلال الاسرائيلي التي أقامت المستوطنة على أراضي هذه القرية عقب احتلالها عام 1967، تشن حرباً يومية منذ اليوم الأول للاحتلال على كل ما يتحرك ويتنفس على أرضها، من بشر ومواشٍ وبيوت. وقال الحاج فوزان عيسى، الذي ولد في هذه القرية وعاش فيها طيلة سني عمرة ال 77: «الاسرائيليون لا يريدون أحداً هنا، يلاحقوننا ليل نهار، صيف شتاء، وعلى مدار العام». وكانت القرية، عند احتلالها عام 1967 تضم عشرات الأسر التي تعيش في بيوت من شعر الماعز وكهوف، جميعها يعتاش على تربية المواشي والزراعة، لكن عددها اليوم لا يزيد عن 40 أسرة. ومنذ الأيام الاولى للاحتلال، بدأت السلطات حملة ترحيل لأهل القرية، ربما بسبب موقعها، اذ تقع على مشارف الحدود مع الأردن، وربما لأهمية أرضها، لجهة اتساع مساحتها، اذ تضم آلاف الدونمات الزارعية، او لجهة طوبوغرافيتها، حيث سلاسل الجبال والتلال والينابيع، التي تجعل منها مكاناً ملائماً لإقامة المنتجعات السياحية أو مشاريع الإسكان وغيرها. ويقول أهالي القرية إن حملة الجيش المستمرة ضدهم منذ نحو 44 عاماً شملت الكثير من الوسائل، من إطلاق النار، والملاحقة بالمروحيات العسكرية، ومصادرة الأراضي والمواشي والجرارات الزراعية، ومنع البناء، وهدم البيوت وإزالتها، بما فيها المدرسة. وروى العشرات من أهالي القرية ل «الحياة» ما تعرضوا له على أيدي السلطات الاسرائيلية، التي سعت الى ابعادهم عن قريتهم وأرضهم. وقال فرسان حنني (54 عاما) إن الجنود الاسرائيليين صادروا الجرار الزراعي الذي كان يستخدمه لفلاحة أرضه، وفرضوا عليه غرامة مالية مقدراها نحو 1500 دولار. وتساءل: «هل يمكن أن يحدث مثل هذا في أي مكان في العالم؟ أن تقوم سلطة ما بمنع الفلاحين من حراثة أرضهم، وتفرض غرامات مالية على من يفعل ذلك؟». وتحدث الحاج فوزان عن الغارات التي كان الجيش يشنها على مربي المواشي، ومصادرة مواشيهم، وفرض غرامات مالية باهظة على أصحابها مقابل إعادتها لهم. وقال ان الجيش في مرحلة لاحقة أخذ يعتقل مربي هذه المواشي ويفرض غرامات مالية عليهم ولا يطلق سراحهم إلا بعد دفعها. وأضاف ان الجنود كانوا يستخدمون المروحيات العسكرية في ملاحقة مربي المواشي بهدف اعتقالهم في الجبال والسهول والوديان. وفي مرحلة ثالثة، أخذ الجيش يطلق النار على المواشي ويقتل أعداداً منها لدفع أصحابها إلى الرحيل. وأضاف الحاج فوزان: «كانوا يطلقون النار والقنابل في محيط البيوت أيضاً من أجل دفعنا للهجرة». وفي المراحل المختلفة، منعت السلطات الاسرائيلية أهالي القرية من إقامة أي بناء عليها. وفي المقابل، سمحت للمستوطنين بالاستيلاء على آلاف الدونمات وزراعتها. وأدت الحملة الاسرائيلية الدائمة على هذه القرية الزراعية الى تقليص عدد سكانها، وقال فوزان: «كل القرى يتزايد سكانها، الا نحن هنا نتناقص». وأكد الاهالي ان بعض السكان الذين لم يستطيعوا إقامة بيوت لأُسَرِهم، اضطر الى الرحيل الى قرية بيت فوريك المجاورة والإقامة فيها، لكن البعض الآخر بقي في أرضه خشية ان يفقدها. وقال الحاج فوزان: «انا ولدت هنا، على هذه الارض. كنت وأنا طفل أذهب يومياً الى قرية بيت فوريك المجاورة لأدرس في المدرسة، والأمر ذاته فعله أبنائي وأحفادي». وأضاف: «عندما جاء الضابط الاسرائيلي وأمرنا بالرحيل عن القرية، قلت له: الى أين اذهب، فأنا ولدت هنا، ولا أرض ولا مكان لي سوى هنا. سأعيش هنا وسأموت هنا». وما زال العديد من أهل القرية يعيش في كهوف. أما الذين يقيمون بيوتاً من الصفيح، فإن السلطات الاسرائيلية سرعان ما تدهم القرية وتهدمها، اذ هدمت الاسبوع الماضي بيوت الصفيح في هذه القرية للمرة الرابعة على التوالي في غضون عام. وطاولت الجولة قبل الماضية من الهدم المدرسة الوحيدة في القرية. وأمس، قدم الى القرية رئيس الوزراء الفلسطيني الدكتور سلام فياض حاملاً معه بيوتاً متنقلة سريعة البناء مكونة من هياكل من الأنابيب تغطى بالخيش، وشارك أهالي القرية بتركيب هذه البيوت، مخاطباً اياهم بالقول: «كل بيت يهدمونه في هذا الوطن سنعيد بناءه». وأضاف: «علينا أن نعي أن الصراع هنا هو صراع بقاء، وصراع وجود، ولا خيار أمامنا الا أن ننتصر، وإلا فاننا سنفقد أرضنا». وقال ل «الحياة» بعد أن تفقَّد ركام المدرسة: «انا لا افهم كيف لأحد في هذا العالم أن يقوم بهدم مدرسة»، مستدركاً: «الدافع وراء ذلك واضح، إنه التهجير والاقتلاع». لكن فياض أكد ان حكومته التي قال انها حددت دورها في خدمة المواطنين وتعزيز بقائهم على أرضهم، «ستواصل شق الطرق، وإعادة بناء البيوت، وتوفير الخدمات ومقومات الصمود الاخرى لكل التجمعات، خصوصاً المهمشة منها، وتلك التي تتعرض لحملات الهدم والتهجير». ورأى أهالي القرية في حضور رئيس الحكومة الى منطقتهم النائية هذه، وقيامه بإعادة بناء البيوت التي هدمتها السلطات الاسرائيلية، عاملَ دعم كبير، وقال عاطف حنني (46 عاما): «عندما نرى رئيس الحكومة يعيد بيديه بناء بيوتنا التي هدمها الاحتلال، فإن ذلك يعطينا الثقة بأننا لا نقف وحدنا في مواجهة المحتلين». وأضاف: «الآن أستطيع البقاء على أرضي وأنا واثق أن هناك من يقف معي في أي محنة أواجهها».