السبت 5/2/2011: عمر أميرالاي عمر أميرالاي رحل بضربة قلب قاضية، هذا الفنان السوري الذي تغلب على المعوقات بالاستعلاء عليها وبثقة ذاتية لا تنحني. في عام 1981، كان يصور في بيروت فيلمه التسجيلي «مصائب قوم»، تحديداً في كورنيش الروشة حيث بنى تجار صغار أكواخهم الخشبية يبيعون الثياب، كانوا مع الخشب والثياب، في ذلك المكان العالي، يحجبون البحر، بما ينسجم مع حجب أشياء كثيرة من المشهد اللبناني. كانت سيطرة المقاومة الفلسطينية وحلفائها اللبنانيين تتراخى وتدخل في انسداد سياسي وثقافي واقتصادي أدى الى تفتيت القوى وانصرافها الى خلافات صغيرة وقتلى ودمار. حاول عمر التقاط إيقاع مدينة تشتهي تغييراً يجدد حياتها أو انتحاراً يجذب الاحتلال الإسرائيلي، وهذا ما حدث بعد أقل من سنة على تصوير الفيلم. كان عمر أميرالاي والفنيون في آخر الكورنيش حين انفجرت سيارة مفخخة في أوله، وتصاعدت النار ذات الرماد... التعديل لا بد منه في السيناريو. وبالصدفة وحدها عاش المخرج وعاش الفيلم. في تلك الأيام المحبطة التقيته وتعرفت في حينه الى علامات في السينما السورية لأخلص الى أن حساسية المجتمع السوري، تجد تعبيرها في أفلام المخرجين الثلاثة: أسامة محمد وعمر أميرالاي ومحمد ملص. هؤلاء مع قليلين بعدد أصابع اليد من مبدعين في السينما والرواية والشعر، هم بوابة سورية. مزاجية تصل أحياناً الى الكسل، وسؤال يعلو ويهبط حول جدوى الإبداع في بلاد منذورة لجمودها وكآبتها. لكن الإنجاز المترافق مع الجدوى يحمل زاداً للروح والعقل، وهو يكشف المجهول في بلاد لا نعرفها جيداً. يمضي العمر ولا نعرفها جيداً. الأحد 6/2/2011: صوت نقترب من العتمة الكبرى ونحفظ نهاراتنا لأن المسافة مجرد وهم على هذا التراب المائي، نمشي في اتجاهين متعارضين ولا نفترق. ومكتفياً بصوتك أرسم الفراشات والعصافير حين الربيع البطيء، بزغب أشجاره ونباته، لا يحفل بورق خريفيّ على البلاط تحمله ريح عابثة. صار صوتك مقتصراً على الخبر لأنك ختمت النجوى، أو لأن ما قلناه يكفي حتى آخر العمر، نجمعه في مخطوط ونستعيد القراءة وحدنا، تاركين الناس لكتبهم. الحب ليس للتبشير. الاثنين 7/2/2011: الأرق المصري نومنا قليل هذه الأيام، بل هو إغماءات بين خبر عن مصر وخبر. ليست بلداً آخر. إنها بلدنا. صوتها في المسامع وصورها في الخيال. من يصدق؟ وصلت التظاهرات الى الواحات، سيوة والخارجة وغيرهما، أمكنة وادعة تكاد تخلو من الأصوات، أمكنة الهدوء العميق منذ ما قبل أخناتون تعلن اليوم صخبها. لا مبالغة في أن ما يحدث غير مسبوق. سيأتي يوم قريب نتعرف فيه الى مصر على رغم ادعائنا معرفتها. لا رواية ولا فيلم يستطيعان الإحاطة بهذا الحشد. 15 يوماً بلا ملل. الهدف واحد ولا ملل. هنا يستطيع البشر إعادة تأليف شعارهم بطرائق متنوعة. كل يوم كأنه اليوم الأول وليس من تكرار. كل يوم كتاب جديد ولحن جديد وغناء جديد ولوحة جديدة. وهذا الجديد كله يصب في نهر ساكن ومخيف يشبه النيل، أو هو النيل الذي رأيناه وما رأيناه. ومن احتشاد الذاكرة تطفر صورة مصرية: ذات مساء على سطح فندق مطل على النيل. مع الأصدقاء في مساحة شاحبة فيما الضوء الباهر يتركز على الراقصة والموسيقيين. يبدو الجسد مضيئاً هو الآخر. عروس بنت بلد تتهيأ لطقس الغرق النبيل. جالساً عند حافة السطح نظرت من عليائي الى النيل ساكناً بلونه الأسود، ومثل وحش أسطوري أدخل الخوف الى نفسي. ارتعدت حين عاودت النظر الى الراقصة ومن خلفها العازفون الذين تبين لي أنهم عميان. غادرت المكان مسرعاً لئلا أشهد الراقصة قرباناً يبتعلها النيل أمام موسيقيين بلا عيون. الأربعاء 9/2/2011: ولادة الصوت الأول في بيت ينخفض درجتين عن عشب الحديقة. ولادة في مغارة حديثة بلا سامريين يتوقعون ولا خراف تفتح أحداقها على الكائن البشري في لحظاته الأولى. الصوت الأول والدهشة المستمرة. هذا العالم لا نعرفه جيداً بدءاً من سيارة البويك وساقها عند باب المفتي يذرع الشارع قلقاً في انتظار موكب رئيس الجمهورية مهنئاً بعيد الفطر السعيد. تمر الأيام والسنوات مثل برهة، بطائرات تحملنا الى بلاد قريبة وبعيدة حيث لغات ومناخات لا يألفها جسد أمين لبداياته. من يكون هذا المتفائل القائل إن البشر يتشابهون؟ الرؤية الأولى لوجه الأم. يكبر الطفل ويتغير وجهها، لكنه التقاه وقد تخلد على جدار الأكروبول حين ارتقى الدرج وصولاً الى التلة المطلة على أثينا. رأى وجه أمه هناك ولم يرَ وجه الطفل في المرآة. الولادة في البيت الواطئ تتجدد هنا وهناك. كل دهشة ولادة وكل كتابة، لكن الحب واحد يحتضن ولادات. الخميس 10/2/2011: أستاذ التاريخ تذكر ميشال جحا أساتذته وزملاء لهم سابقين ولاحقين في الجامعة الأميركية في بيروت، وجمع صوراً كتابية عنهم في كتابه «وجوه نيّرة» الصادر عن دار نلسن - السويد، لبنان. من الأسماء التي يتناولها جحا أستاذ التاريخ زين نور الدين زين كاتب «نشوء القومية العربية» ومؤلفات أخرى بالعربية والإنكليزية. وهنا مقطع: «كان الدكتور زين نور الدين زين (1908 - 1996) يصور لنا وقائع التاريخ بأسلوب قصصي كاريكاتوري ساحر ومشوِّق فيجعله وكأنه ينبض بالحياة، بخاصة عندما يتناول الدولة العثمانية. يجعل من مادة التاريخ قصة يدرِّسها بأسلوب ذاتي خاص به. المراجع متوافرة للطلاب وعليهم بها في المكتبة، أما خبرته وتجاربه فهي جديدة ولا توجد في كتب المراجع. لهذا كان درسه متعة وفائدة. (...) سألته مرة، وحرب لبنان في بدايتها، كيف ترى؟ قال: مثل «كبكوبة» صوف لعبت بها قطة فأصبحت خيوطها «مشربكة»! ومما ورد في كتابه «الصراع الدولي في الشرق الأوسط»: «ربما ليس هناك من بقعة أخرى في الدنيا كلها وقعت حروب على أرضها، وعبرت شعوب ثم عادت لتعبر ثانية فوق أرضها، كمنطقة الشرق الأدنى. هذه المنطقة كانت أبداً ساحة معركة للجيوش، كما كانت معتركاً للفكر. إن جميع الآثار التاريخية في الشرق الأدنى، سواء كانت أبنية أم أنصاباً أم هياكل أم قبوراً أم نقوشاً، جميعها علامات بارزة لفاتح أو لقاهر أو قادم من أوروبا أو من الجزيرة العربية أو من أواسط آسيا. وقد تكون الهضبة الصخرية الصغيرة عند مصب نهر الكلب، على بعد ستة أميال الى الشمال من بيروت، أهم بقعة تاريخية على وجه الأرض، وهي لا تزيد عن بضع مئات من الأمتار طولاً. في هذه البقعة الفريدة يستطيع الزائر أن يرى سبعة عشر نقشاً وتماثيل منحوتة على الصخر لتخليد ذكرى فتح هذا الجزء من العالم على أيدي المصريين القدماء، والآشوريين، والبابليين، والإغريق، والرومان، والمماليك، والأتراك والعرب، والفرنسيين، والجيوش البريطانية - من رعمسيس الثاني في القرن الثالث عشر قبل الميلاد الى الجنرال ولسن قائد الجيوش البريطانية، والجيوش الفرنسية الحرة، الذي احتل سورية ولبنان عام 1941. وما كان الكاتب الألماني ارنست جاخ بمسرف في القول عندما كتب في 22 كانون الأول (ديسمبر) 1916، في المجلة الألمانية دويتشه بوليتيك (Deutsche Politik) يقول: «إن الحرب تأتي من الشرق، والحرب ستندلع بسبب الشرق، وتُحسم في الشرق».