سبعون في المئة من اللبنانيين الذين يعانون من الاكتئاب لم يستشيروا أي طبيب، وأقلّ من عشرين في المئة ممن يعانون من اضطراب القلق العام سعوا للحصول على علاج، بحسب جمعية «إدراك» (مركز الأبحاث وتطوير العلاج التطبيقيّ). نِسَبٌ لا تبشّر بأي خير حول الصحّة النفسية للبنانيين، خصوصاً إذا كانت الجمعية نفسها أجرت دراسة سابقة أظهرت فيها أنّ نحو ربع اللبنانيين البالغين أي نسبة 25.8 في المئة منهم عانوا اضطراباً نفسياً واحداً على الأقلّ خلال حياتهم. ليست الأسباب الكامنة وراء هذه الاضطرابات النفسية خافية على أحد، فمنها ما هو مرتبط بالحال العامة للبلاد ومنها ما يرتبط بالشخص نفسه أي مشاكل أسرية أو مهنية أو غيرها من العوامل الخاصة التي تؤثر في الفرد. إلا أنّ ما بات مؤكداً أنّ الأزمات المتسلسلة التي تهزّ لبنان من فترة الى أخرى منذ اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري في عام 2005 وحتّى اليوم، تؤثر بشكل مباشر في الصحة النفسية للبنانيين حيث يُسجّل تدهور كبير في هذا المجال وارتفاع كبير في حالات الاضطراب النفسيّ، ما يجعل لبنان أشبه ب «مصحّ عقليّ» كبير حيث يرفض المرضى حتّى تلّقي العلاج. بين اللبنانيّ والطبّ النفسيّ هوّة ناتجة من أفكار خاطئة كثيرة، وعلى رغم كلّ التقدّم الطبّي ما زال هذا المجال يُربَط بالتخلّف العقليّ والجنون، ويُنظَر الى كلّ شخص يزور الطبيب النفسيّ بأنّه أصبح مختلفاً وغير مقبول من الناحية الاجتماعية. هذه الظاهرة تنتشر في المنطقة العربية عموماً، إلا انّ التوعية حول الطبّ النفسيّ أسست لثقة بين الأفراد والأطباء النفسيين في أماكن مختلفة من العالم، فيما يفضلّ اللبنانيّ ترك مشاكله لنفسه والإنعزال بدل مناقشة أزماته بحثاً عن الحلّ. وعلى رغم ان من 30 الى 50 في المئة من البالغين اللبنانيين الذين أجرت معهم جمعية «إدراك» مقابلات شخصية يعانون عجزاً حاداً في حياتهم الإجتماعية والعملية اليومية في حال كانوا مصابين باضطراب نفسيّ أو عقليّ كالقلق والإضطراب، لم تُسجّل زيادة مهمة في عدد المرضى الذين يزورون الأطباء النفسيين بحثاً عن العلاج المناسب. قسم كبير من الأطباء النفسيين يتردد في تحديد إذا كان هناك تزايد في الحالات النفسية التي يتمّ علاجها. تردد يعكس ظاهرة ابتعاد اللبنانيين عن استشارة الأطباء النفسيين التي ما زالت حاضرة في المجتمع اللبنانيّ. وفي شبه إجماع من الاطباء النفسيين يؤكدون: «إن أتوا (المرضى) ليستشيرونا، فهم غير متأكدين من هذا العلاج، ما يؤخر تعافيهم النفسيّ». ويبرز رد فعل سلبي من الأطباء النفسيين تجاه محاولة اللبنانيين المرضى نفسياً إيجاد معالجات بأنفسهم فيبدأون تناول الأدوية بكميات كبيرة من دون إي استشارة طبية، ما يزيد من تفاقم وضعهم الصحيّ بدل أن يشعروا بأنّهم يتحسّنون. وليس الوضع كما يبرزه الأطباء النفسيون بعيداً من الحقيقة أبداً، ففي جولة ل «الهيئة الصحية الإسلامية» على مجموعة من الصيدليات لاستبيان كيفية صرفها أدوية الأعصاب والمسّكنات، تبيّن أنّ سبع صيدليات من أصل عشرة تصرف هذه الأدوية من دون وصفة طبيب على رغم أنّ هذه الادوية تؤدي الى الإدمان لدى تناولها باستمرار. هذا الصرف العشوائي للأدوية المتعلّقة بالاضطرابات النفسية يبرز الطلب الكبير عليها، والوعي الغائب لدى اللبنانيين بمخاطر تناول هذه الادوية من دون استشارة طبية. أمّا الحجّة التي تقدّمها النسبة الأكبر من اللبنانيين فهي أنّ كلفة المعالجة النفسية باهظة خصوصاً أن الثمن الذي يدفعه المريض لكلّ جلسة يصل الى 70 دولاراً لدى بعض الاطباء. غير أنّ فاتورة الأدوية المهدئة هي أيضاً عالية وتكلّف اللبنانيين كثيراً خصوصاً أنّ المريض متى بدأ تناول هذه الأدوية لن يتوقف عن ذلك، أمّا إذا حصل على المعالجة النفسية فيمكن ألا يعود بحاجة الى الدواء أبداً. ميشال (42 سنة) يعاني من الأرق منذ فترة طويلة ما يجعله في حال من الإنزعاج الدائم ما يؤثر في أطفاله وزوجته بشكل كبير، إلاّ أن السؤال عمّا إذا كان يتقبّل خضوعه للعلاج النفسيّ، يلاقي رد فعل سلبي، ويقول: «لستُ مجنوناً لأنني لا أستطيع النوم ليلاً، أبتلع حبتين من المنوّم فأنام حتّى الصباح». ولا يقبل ميشال أي نصائح حول إمكان إيجاد حلّ جذريّ لمشكلته، حتّى من أقرب المقرّبين إليه على رغم أنّ حالته المزاجية تؤثر على كلّ المحيطين به. أمّا كلارا (34 سنة) التي تعاني من تشوّش الأفكار وانحراف المزاج بعد طردها من علمها بسبب أزمة إقتصادية عانت منها المؤسسة التي كانت تعمل فيها، فترى أنّ زيارة الطبيب النفسيّ تعني تحوّلها الى «مضطربة نفسية بشكل كامل». وعلى رغم تدّخل أصدقائها وأقاربها، ما زالت كلارا مصرّة على رأيها وإن كان ذلك يمنعها من إيجاد فرصة عمل جديدة. ليست الآفاق مفتوحة كثيراً أمام اللبنانيين الذين يعانون من الإضطرابات النفسية جراء الأزمة السياسية أو الإقتصادية – المعيشية أو المشاكل الشخصية، فالإنتحار غالباً ما يكون الحلّ للكثير ممن يرزحون تحت وطأة الضغط النفسيّ. وقبل أن تتفاقم الإضطرابات النفسية، الحصول على المساعدة من إختصاصيّ هو الحلّ وليس الإنعزال والإستسلام للحزن واليأس.