الصراع بين حكايتين؛ يهودية خُرافية وعربية واقعية، هو المكوّن الأساس لرواية الروائي الفلسطيني وليد الشرفا الثانية هذه. رواية يمكن القول إنها تنتمي إلى عالم الرواية القصيرة، لا من حيث الحجم فقط (158 صفحة من القطع الوسط)، بل لجهة تمركُزها حول شخصيّة مركزيّة واحدة، وتمحورها حول مقولة أساسيّة واحدة، في سرد مكثف، مع ميل واضح إلى السخرية بأسلوب الاستفزاز، وبالمواقف التراجيكوميدية. وهي في هذا كله، تشكّل رواية أفكار، حيث الأفكار تحمل «خطابَ» قضية ذلك الصراع، وتتبنّى «حكاية» وتدافع عنها، في نصّ يتكئ على تقنيات تجريبيّة، ولا يخلو من ثغرات وشوائب تتطلّب الدراسة. هذه أبرز الملامح الفنية لرواية «وارث الشواهد» (الدار الأهلية- عمّان 2017). تبدأ الرواية بتعريف العلاقة بين الكتابة والقارئ، فالقارئ «شريك في المعجزة، لكنّه ليس شريكًا في الإثم»، ثم التعريف ببطل الرواية وشخصيّتها المركزيّة الدكتور في التاريخ «صالح الوحيد»، القابع في سجن الدامون، الواقع في منطقة الكرمل في حيفا شمال فلسطين، مستذكرًا تاريخ أجداده الذين جرى تهجيرهم من قريتهم «عين حوض»، أصبحت «عين هود» بعد قيام الكيان الصهيوني، وشهدت مجزرة هائلة. يعيش «الوحيد»، مع أمّه وجدّه، الذكرى «الكابوسيّة» لاستشهاد والده برصاص الإسرائيليّين، وتشهد طفولته حوادث ومحطّات منها المأسوي، حيث حياة اليُتم وشعور الفَقْد، ومنها السحريّ ذو الطابع الفانتازي الذي يُشعر بشخصية «مُبروكة». وخوفاً عليه من القتل، تدفعه والدته ليهاجر إلى أميركا للدراسة، فيتعرف إلى الطبيب بشارة، وإلى الكاتبة المسرحية ريبكا التي سيتزوّجها وينجب منها ليلى التي ستغدو رسّامة. وحين يعلم بمرض جدّه «سليمان الصالح»، يعود بصحبة طبيب فلسطينيّ إسرائيليّ الجنسية (بشارة)، يشرف على علاج الجدّ في مشفى في حيفا، ثم يتوفّى. وفي اليوم التالي لدفن الجدّ في مقبرة في نابلس، يذهب «الوحيد»، بصحبة بشارة» إلى قريته لزيارة بيت أجداده، في قرية الفنانين، التي أقيمت على أنقاض منزل الأجداد، فيصطدم ب «الفنان» الذي يسكن المنزل ويرفض السماح له بالزيارة، فيصحبه بشارة إلى «بار» ضمن قرية الفنانين، وفي «مِبوَلة» البار يقرأ، وسط أجواء السُكارى والبول عبارة «منزل صالح المحمود، بُني عام 1922»، التي يعتبرها «الشاهد» على حضور أجداده، وفي حال من الغياب عن الوعي يبدأ في الصراخ مطالباً بالحجر الشاهد، ويشتبك مع شرطيّ إسرائيليّ ويقتله، فيجرى اعتقاله ثم محاكمته، وتتحوّل هذه المحاكمة إلى «فرصة» لمحاكمة «تاريخ» دولة الاحتلال، وتاريخ اليهود كله. يجرى ذلك كله، وقد حاولنا اختزال تفاصيله، في سرد مكثّف يميل إلى «شعرنة» لغة الرواية، مع وصف لما جرى في الماضي، ولكن باستخدام لصيغة الفعل المستقبليّ من خلال «سين التسويف». وعلى رغم الثقل الذي تفرضه هذه «السين» وتكرارها، فهي الأداة التي رآها المؤلف أسلوبًا يجمع فيه ثلاثة أجيال أو أكثر، في مشهد سرديّ يمزج التاريخيّ باليوميّ، والفكريّ بالعاطفيّ الإنسانيّ، ليقدّم صورة «بطل» بمواصفات تنطوي على الواقعي والأسطوريّ في آن. ربّما لم يكن صراع «الروايتين» على الأرض جديداً في الرواية الفلسطينية، فهو حاضر فيها وبقوّة، وتكاد لا تخلو رواية فلسطينية من طرح هذا الصراع، في صيغة ما، ويظلّ أسلوب الطرح وزاويته هما ما يمنح خصوصية هذا العمل الفني أو ذاك. بل إنّ «حكاية» قرية «عين حوض» وتهويدها أو «عَبْرنتُها» لتصبح «عين هود»، وتحويلها إلى قرية للفنانين، هي حكاية سبق طرحها أيضاً، فما الجديد الذي يضيفه الشرفا إلى هذه الحكاية؟ الجديد هنا يكمن في اتّخاذ هذه الحكاية، والقرية وأصحابها الأصليين، ومنهم الحفيد/ الوحيد، منطلقًا لبناء حكاية «كلية» عن الصراع وجذوره. والجديد أيضاً، هو في «المحكمة» التي يقيمها الوحيد، ومعه صديقه الفلسطيني/ بجنسية إسرائيليّة، ومعهم ريبكا الأميركية، وكذلك الفتاة الرسّامة ليلى، ابنة «الوحيد»، لمحاكمة «الجلّاد» الذي يحاكمهم. فالكلّ يشارك بدوره في هذه المحاكمة، وصولاً إلى خلاصات أساسية في قراءة التاريخ البعيد والقريب والراهن. ولا يجرى هذا على صعيد نظريّ فقط، ولا يكتفي الروائي بسرد «خطابه» نظريّاً، بل هو حالات التضحية التي تمّت للوصول إلى قناعة «الحقّ التاريخيّ للفلسطينيّين في وطنهم. ويمنح المؤلف لكلّ من «الوحيد» وبشارة وريبكا وليلى، فرصة التعبير والمشاركة بشهاداتهم، وإبراز التحوّلات التي طاولت مصائر الشخصيات. فمن جهة وحيد، وكان قد «هرب» من الموت، فقد وجد الفرصة ليمارس «العودة» إلى الوطن، ولو على نحو مخاتل، وبصورة منقوصة، حيث العودة تتحقق ولكن إلى نابلس، وليس إلى «عين حوض» وحيفا. ومن جهة بشارة، فهو مسيحيّ بجنسية إسرائيلية، كان يؤمن بالسلام، وبإمكان التعايش والعدل والمساواة، لكن علاقته مع الوحيد، واطلاعه على بعض الحقائق التاريخية، والوقائع المتصلة بالقضية، خلقت لديه تحوّلات جذرية، ففكّر، ولو بصورة رمزية، في إقامة معرض لصور عدد من الشهداء الفلسطينيين، مثل صلاح خلف ووديع حداد وغسان كنفاني واسماعيل شموط وناجي العلي وغيرهم، واختار ليلة الاحتفال بعيد ميلاد زوجته ليقيم المعرض، ما استدعى الحُكم عليه بالإقامة الجبرية، ثم تقديمه للمحاكمة، وكانت خلاصة هذه المحاكمة تهديده بسحب الجنسية الإسرائيلية، ليردّ على القاضي بقوله الحاسم «ماذا سأخسر؟ سأعود فلسطينيّاً نقيّاً»، لتنتهي الرواية بهذه الجملة، في إشارة إلى أن الجنسية هي «شائبة» شابت نقاء فلسطينيته، والمحاكمة مستمرة. بل إنّ ليلى، بنت الوحيد، الفتاة التي لم تعرف فلسطين، تمارس دورًا في رسم «الحكاية»، فهي افتقدت والدها الذي سافر فجأة، ومن دون أن يودّعها، عائداً إلى نابلس، وهي لهذا تقرّر أن تقوم بدور ما، فتجد ضالّتها في الرسم، وخصوصاً رسم بيوت ثلاثة عالقة في حياة والدها وذاكرته، الأول في «عين حوض»، والثاني في نابلس والثالث في أميركا. وليلى، بحسب ما تعبّر والدتها ريبكا في شهادتها، هي «الوارث» الوحيد لكل هذا الميراث من الحقوق، ولا بدّ من تحقيقها. في الفقرات الأخيرة من الرواية، وعبر صوت ريبكا وشهادتها عن «الوحيد» زوجها، وأحلامه وأفكاره وطموحاته، يعرض المؤلف الكثير من الأفكار ووجهات النظر، في ما يتصل بعلاقة «شرق/ غرب»، منذ القدم، مروراً بمحطة الحروب الصليبية، وصولاً إلى وعد بلفور، وتشبيه ما حصل للفلسطينيين بما حصل للهنود الحمر على أيدي «الغزاة» الإسبان. وهو يعرض ذلك بقدر كبير من السخرية والتهكم والأحكام التي يجب استخلاصها من هذا التاريخ ووقائعه. كما يمزج بين تشريح التاريخ، وتشريح الإنسان فيزيولوجياً وسيكولوجياً، وحتى لغويّاً وأنثروبولوجيّاً.