يمكن القول إن الرواية العربية أخذت ترتاد ميادين كانت مقفلة أو مغيبة أو مهمشة من قبل، على رغم أهميتها الفائقة. وهو ما يحدث في رواية سحر خليفة الجديدة هذه «أصل وفصل» (دار الآداب، 2009). والمقصود بذلك، هو العودة إلى ما قبل التحول والتبدل والتغير الهائل واقعياً، أي العودة إلى رؤية صورة مفصلة لقرية أو بلدة قبل أن ينثرها الزلزال وتعصف بها الأعاصير. وهو ما لم يكن الكتّاب الفلسطينيون خصوصاً، والعرب عموماً انتبهوا إليه، في حمى الكتابات الشعاراتية والخطابات الأيديولوجية، والأحلام الرومنطيقية. لا تعاين سحر خليفة في هذه الرواية الواقع القائم، وقد فعلت ذلك من قبل في بعض أعمالها. لقد قررت أن تعود إلى الصورة بالأسود والأبيض في الألبوم. الصورة التي ربما كان الكثيرون يتحاشون النظر إليها خوفاً من اهتزاز صورهم الراهنة، أو ربما كان الكثيرون لا يرغبون في البحث عنها، بصفتها، كما يرون، لا تقدم للمشهد القائم أي إضافة. والثابت علمياً وتاريخياً، هو أنك لا تستطيع رسم صورة المستقبل، من دون تأمل صورة الماضي، وقراءة التفاعلات الراهنة. وهذا يعني أن خروج الفلسطينيين من دائرة النار التي تضيق حولهم منذ قرابة قرن، لا بد له من أن يمر عبر مساءلة الماضي واستجوابه في أكثر من سياق، بما في ذلك الكتابة الروائية. ولئلا يذهب البعض فوراً إلى توصيف هذه الرواية بالتاريخية كما جرت العادة، فإننا نود التأكيد في كل مرة مشابهة، أننا أمام نص روائي محكوم بشروطه التاريخية، لكنه ليس نصاً تأريخياً أو توثيقياً لا من قريب ولا من بعيد. فالكاتبة لا تتناول شخصياتها، وتحوك وقائعها كما روتها الأمهات أو الجدات أو كتبتها المصادر التاريخية. بل هي تبتكر هذه النماذج الخاصة بالعمل الروائي، وتقيم علاقات هذه النماذج بعضها ببعض من جهة، وبينها وبين الواقع الروائي المستند إلى شروطه التاريخية المعروفة من جهة أخرى. نحن هنا أمام صورة روائية تشبه الصورة التي سمعنا بها، ورأيناها في حكايات الآخرين. لكنها الآن صورة الكاتبة سحر خليفة لفلسطين، كما رأتها هي في خلال معايشتها رموزاً موضوعية، وفي خلال ثقافتها المغايرة، ورؤيتها الخاصة للواقع. وهي صورة تختلف عند كاتب آخر بالضرورة، تبعاً لبصمة الكاتب المستمدة من طريقة صوغه الوقائع والأحداث، ومن طريقة ابتكاره النماذج التي يراها ضرورية لاستكمال صورته. ومن هنا، فإن فلسطين قبل النكبة، تظل ميداناً واسعاً مفتوحاً يدعو الكتاب إلى الاشتباك فيه مع كل ما حدث وما يحدث وما قد يحدث. وإذا كانت الروائية سحر خليفة حددت فترة زمنية في حياة الشعب الفلسطيني، فإن هذه الفترة ذاتها تظل طازجة فنياً لمن أراد، ولمن امتلك المقدرة على إعادة رسم الصورة، وإنتاجها في سياق روائي مغاير لسياق الحكايات الشعبية والسياسية. ويمكن القول إن الفترة الزمنية التي ابتدأت منها سحر خليفة روائياً تبدأ من مطلع الثلاثينات من القرن المنصرم، على رغم التمهيد السابق لهذه الفترة. وإذا لم تكن الرواية تاريخية بالمعنى الفضفاض والمترهل، وإذا كانت سحر خليفة ترسم الصورة برؤيتها هي، فإن علينا أن ننتبه إلى أننا أمام نص روائي لا تأريخي. وهذا أمر مهم جداً لئلا تصبح هذه الصورة أيضاً بديلاً للتاريخ الحقيقي، بصرف النظر عن انحيازنا الى هذا التاريخ بكل ما فيه أو نقده بكل ما فيه. تبدأ الكاتبة روايتها باستقرار عائلة قحطان على وضع محدد، بعد وفاة زوج زكية الأم، التي أصبحت أرملة شابة مضطرة لرعاية أسرة تتألف من عدد من الأولاد وبنت واحدة هي «وداد». وفي خلال حركة هذه الأسرة في مجتمعها الفلسطيني المنذر بالكثير من العواصف والأحداث الكبرى، تزداد مساحة المشهد الذي ترسمه الكاتبة، ليطاول المجتمع الفلسطيني كله، بثقافاته المتعددة، وبعاداته وقيمه وأفكاره المتناقضة أحياناً حول الكثير من المفاهيم والأفكار. وهكذا لا نجد أنفسنا أمام كتلة فلسطينية مصمتة، بل أمام مجتمع يعيش صراعات عدة، منها ما هو معلن ومنها ما هو مضمر. وكعادتها، فإن سحر خليفة تنجح في جعل المرأة الفلسطينية، وصراعها مع القوى المهيمنة في مجتمعها - الأفكار النمطية والعادات والتقاليد والدين - مساراً أساسياً من مسارات رواياتها، حتى حين كتبت عن الانتفاضة الفلسطينية. ما يعني أن الكاتبة تدرك جيداً أهمية أن تكون المرأة حرة ومستقلة وصاحبة قرار، لا سبية أو حريماً أو خادمة أو حاضنة. بل ويمكن القول أيضاً إن هذا المسار يعد الأقوى في مسارات الرواية كلها، ويفوق في قوته التأثيرية مسار الأخ الأكبر وحيد الذي يشارك في ثورة عز الدين القسام وفي معركة يعبد، ومسار الأخ أمين الذي يختار العلم والثقافة طريقاً في الحياة، وأسلوباً في مواجهة الزلزال المقبل، المتمثل في النكبة التي توقفت الرواية عند تخومها، بعد أن مهدت لها كثيراً. ولكن، لماذا كان مسار المرأة أقوى، على رغم الأهمية الفائقة للصراع الفلسطيني ضد الاستعمار البريطاني من جهة، وضد تدفق العصابات الصهيونية على فلسطين من جهة أخرى؟ يبدو في وضوح، أن النماذج النسائية في الرواية، أكثر اكتمالاً ونضجاً فنياً من النماذج الأخرى. وهذا يعني أن الكاتبة تمكنت من رسم نماذج روائية ليست موجودة كما هي في الواقع المعني. ولكن، يمكن القول إننا قد نعثر على الكثير من النساء الفلسطينيات اللواتي يشبهن زكية ووداد وليزا ورشا. يشبهنهن ولكن من دون تطابق. ما يعني أن هذه الشخوص الروائية هي شخوص سحر خليفة لا شخوص الواقع الموضوعي، ولكنها أيضاً شخوص لا تتناقض مع الواقع الموضوعي نفسه. وتبرز في هذا السياق شخصية الأم زكية وابنتها وداد. ولكن المقدرة الفنية تتجسد في افتراق هذه الشخوص بعضها عن بعض. فلكل منها صورة تختلف عن صورة الأخرى وتناقضها. ولكن اللافت أكثر، هو أن الصورة غالباً لا تكتمل من دون إبراز الصراع الداخلي في الشخصية ذاتها، كما حدث للأم زكية وابنتها وداد، وبدرجة أقل وحيد وأمين. تبدو الأم في بداية الرواية هي مركز الثقل والبؤرة المركزية التي تشع لتتسع دائرة الضوء حولها وترينا من خلالها الآخرين، سواء كانوا الأبناء أم الأقارب كالخال وبناته وعلاقاته المشبوهة بصفته تاجراً. ولكن مركز الثقل هذا، الذي يضطر بحكم موقعه ومسؤوليته اتخاذ الكثير من القرارات الحاسمة، يعيش صراعاً داخلياً حاداً. فلا هي مقتنعة تماماً بفكرة زواج البدل - ابنها وحيد يتزوج رشا ابنة الخال، مقابل زواج ابن الخال من ابنتها وداد -. ولا هي رافضة في الإطلاق أيضاً. فالمجتمع الذي هي فيه لا يجيزه فحسب، بل هي ظاهرة شائعة، ولا تزال بقاياها حتى اليوم. وهي ليست مقتنعة تماماً أيضاً بعروس ابنها ولا بعريس ابنتها، ولا حتى بالخال نفسه. ولكن، من أين لامرأة أرملة في مجتمع تقليدي شرقي أن تخالف القوانين والأعراف والتقاليد؟ كان يكفي هذه المرأة فقط أن تعبر عن عدم رضاها في شروط تاريخية لا تسمح بهذا التعبير الذي خرج إلى العلن أيضاً في حواراتها مع ابنها. كما أن واقع الأسرة المتردي اقتصادياً كان عاملاً حاسماً في موافقتها أخيراً، بحيث يمكن زواجاً كهذا أن يضمن مستقبل الأولاد، طالما كان الخال راضياً، وهو التاجر الثري العائد بثروة انتهازية من الخليج، وبإدارة مشاريع تجارية في فلسطين. وهنا تعود المؤلفة بالأم إلى مسؤولياتها التاريخية، خصوصاً في ظل غياب الأب. فهي مضطرة لستر ابنتها وحمايتها من مصير بائس كمصيرها هي بعد وفاة الزوج. ومضطرة أيضاً لتأمين مستقبل أولادها. ونلحظ هنا أن الأم خضعت لإرث التاريخ الاجتماعي الثقيل، لأنها لم تكن مؤهلة لرفضه أو الانعتاق منه. بينما نلحظ الابن الثاني أمين المؤمن بالعلم، وقد باح برأيه في ثقة ووضوح معارضاً هذا الزواج، في الوقت الذي لم يتمكن الولد الأكبر وحيد، صاحب العلاقة المباشرة من مناقشة أمه. أما البنت وداد، ابنة الخمسة عشر عاماً تحت جناح الأم، فبدت بلا حول ولا قوة. تدور الرواية بين نابلس وحيفا والقدس. ونكتشف أن لكل مدينة من هذه المدن قلباً مختلفاً. فثقافة القدس غير ثقافة نابلس التقليدية المغلقة، حيث العائلات المعروفة بتقاليدها والحفاظ على هذه التقاليد وسيلة للحفاظ على الوجاهة والزعامة. وإذا بدا شيء من ذلك موجوداً في القدس، إلا أن القدس منفتحة على الثقافات الأخرى، حيث يتركز المسيحيون، والإنكليز، وحيث العائلات ترسل أبناءها للدراسة في الخارج، ضمن مشروع الزعامة في شكل أو في آخر. أما حيفا، فهي ميناء فلسطين، حيث الاختلاط المباشر باليهود والقوى العاملة والهجرات، وتأثر المحليين بكل ما هو قادم. أقام الخال في حيفا، وأخذ معه الأم وأولادها بعد حياة نابلس التي ارتبطت بالجذور الأولى. لكن الابن الثاني أمين يقيم في القدس متابعاً دراسته، وهو ما رتب عليه الانفتاح على المسيحيين في شخص ليزا المتعلمة والمثقفة الوطنية التي درست في الغرب، وعادت لتواجه المشروع الصهيوني بخطاب مختلف. ولأن في القدس حراكاً سياسياً فقد وجد أمين نفسه منحازاً إلى الشيوعيين، على عكس أخيه وحيد الذي وجد ضالته في الإسلام المقاوم، المتمثل في رمز المقاومة الشيخ عز الدين القسام. التطورات التي تسجلها الرواية، تكشف رؤية الكاتبة المنحازة إلى المرأة، والداعية إلى خروجها من هامش الرجل التقليدي في مجتمع عربي. وإذا كان زواج البدل عملية مقايضة تجارية، إلا أن الكاتبة تركز على تسليع المرأة هنا، ولا تولي الأولاد مقداراً مماثلاً من التعاطف، لأنها لا ترى فيهم ضحايا كالفتيات، على رغم أن الطرفين يقعان في الخانة ذاتها. فلا رشاد زوج الابنة وداد صاحب قرار مستقل عن أبيه التاجر، ولا وحيد البكر قادر على مخالفة الأم، ما دامت هي مركز الثقل وصاحبة الفضل في تربيته ورعايته. وحين تتكشف نتائج هذا الزواج عن مصاعب نمطية في مجتمع تقليدي، يبدأ هذا الجيل مراجعة شاملة للذات. وهنا تختلف القرارات والأفكار والمفاهيم من شخصية إلى أخرى. وهنا تحديداً تبرز شخصية وداد كنموذج فني قوي. فهي تقرر أولاً على رغم خوفها العظيم من أن تترك المنزل وتذهب إلى القدس في ضيافة ليزا. وكانت هذه أول إشارة في إعادة بناء الشخصية لذاتها. فهي تشارك في القدس في تظاهرة نسوية أمام مقر الحاكم البريطاني صحبة ليزا. وحين تعود تبدأ بتلقي تأثيرات فتاة أخرى نشأت في الشام، الأمر الذي يجعلها تقدم على أشياء ما كانت لتفكر فيها من قبل. وتكون الضربة القاضية حين تعلم أنها أصبحت امرأة مطلقة. حيث تبادر إلى اتخاذ خطوات تصنع فرقاً هائلاً بين وداد العروس، ووداد الأم بعد طلاقها. التعليم والتمريض والخروج وحيدة والعودة متأخرة والانهماك في العمل إلى الحد الذي يجعل ابنتها لاحقاً تقول إن جدتها زكية هي أمها، وإن وداد هي الجدة لأنها تتفقدها مساء عند العودة. ويصبح هذا التحول في حياة وداد أمراً واقعاً لا مفر من القبول به.