«سُبُل الفنّ طويلة والحياة قصيرة!»، هذا ما أعلنته احدى الدمى المتحرّكة بالأسلاك في مسرحية رامونا للشاعر والفنّان الجُورجي رِيزُو غابْرِيَادْزِي عُرضت خلال مهرجان أفينيون الدولي للمسرح (in). نعم، «سُبُل» الفنّ طويلة. وهي متشعّبة كذلك. فما عساه يكون الخيط غير المرئي – خيط أَرْيان – الذي يجمع ما يقارب ستين عملاً مسرحياً قدّمت من السادس إلى السادس والعشرين من تموز(يوليو) في هذه الدورة الحادية والسبعين للمهرجان؟ أَيَكون عواصم العالم كما رأت صحيفة «ليبراسيون» مشيرة بذلك إلى الأعمال التي اتخذت من سراييفو وأتينا وسايغون وباريس وغيرها من العواصم محوراً ومادّة حيّة للعمل المسرحي؟ أم هو المرأة وقد أشار مدير المهرجان نفسه، الفنّان أوليفي بي، إلى هذا الخيط؟ ما من شكٍّ في أنّ لغات الخشبة كانت عديدة في هذه الدورة، وقد ضجّت المسارح بجَرْس البرتغالية والإيطالية والهولندية واليابانية واليونانية والفلمنية والبوسنية والصربية والجورجية والفيتنامية والفرنسية بالطبع – وقد أكون نسيتُ غيرها وأولها الصمت - وهو كما نعلم أساس الألسنة -، فثمّة أعمال مسرحية لا يُسمع فيها كلمة. وما من شكٍّ كذلك في أنّ الوجوه النسائية اللامعة تعدّدت على الخشبة ووراءها، أسطورية كانت أم حقيقية، أمادّةً للعمل المسرحي كانت أم مُخرجةً له، فثلث المخرجين مخرجات وقد ازددن عدداً و «وزناً» فنّياً، نذكر منهن إيمّا دانتي الإيطالية وكاتي ميتشيل البريطانية، ودَوَت الخشبة بأسماء وجوه المآسي اليونانية النسائية من أنتيغون وإيسمان وإيلان كما ضجّت بأسماء أخرى شحذها الخيال كرامونا وجاكلين الخ، وشكّلت الممثلات الفرنسيات الشهيرات، منهن إيزابيل أدجاني وجولييت بينوش، محطّاً للأنظار... والانتظار، إن جاز التعبير. ولم يَخْلُ المهرجان كذلك من الشخصيّات النسائية السياسية المثيرة، منها وزيرة العدل في العهد السابق، كريستيَان توبيرا، وقد أخرجت، بالتعاون مع المخرجة آن-لور لْيَاجْوَا، مسلسلاً يومياً نعود إليه لاحقاً. غير أن الذي يُحفَظ من الأعمال المسرحية - وخيط أريان الرابط لها - لا ينكشف، على غرار المعنى، إلا في النهاية، فهو من صنيع الأداء والقاعة معاً، تنسجه الأعمال المسرحية البليغة، أي تلك التي تبلغ المشاهد في الصميم فيخرج منها مختلفاً عمّا دخل إليها، تلك التي تجعل حضورنا في العالم حضوراً أشدّ وأقوى. والأعمال المسرحية التي نسميها بليغة كانت عديدة في هذه الدورة، بالغة القوّة، بالغة الحضور. وهي من حيث موضوعاتها، تحبك خيوطاً عدّة نذكر منها العائلة -والطفل والطفولة في صميمها-، وعودة المسرح إلى ذاته وإلى وظيفته الاجتماعية، وكينونتنا على هذه البسيطة كأجساد تحيا وتشقى وتفرح وتموت. وقد لا تكون هذه الخيوط الثلاثة إلّا تعبيراً عن غرض واحد وخيط أريان واحد غير مرئي وهو التأكيد على دور المسرح المحوري في الجماعة البشرية ووظيفته الاجتماعية بل السياسية، شرط أن يكون هذا المسرح شعرياً. فالحيّز السياسي، كما يُؤكد أوليفي بي الذي نحا هذا المنحى في البرمجة منذ بداية إدارته للمهرجان عام 2014 والذي جُدّد في إداراته حتى عام 2021، فالحيّز السياسي لا معنى له في مهرجان مسرحي إلا إن أتى من خلال الحيّز الشعري وفي سياقه. وتبقى القيمة الفنيّة للعمل المسرحي، في أدائه ونصّه وسينوغرافياته، الأصل في بلاغته وبالتالي في تأديته دوره الاجتماعي. سحر ومهابة قد تكون المسرحية الأولى التي افتتحت المهرجان في ساحة شرف القصر البابوي، وهي مسرحية أنتيغون لسوفوكل، خير تعبير عن الطابع الدولي للمهرجان وعن الدور الاجتماعي الذي يروم إليه يحمله أداءٌ فنيٌّ مهيبٌ وساحرٌ في آنٍ واحد. فأنتيغون هذه تتكلم اليابانية، أخرجها الفنّان الياباني ساتوشي مِياغي، وهو مدير مركز الفنون الحيّة في مدينة شِيزُوَاكا، الذي كان قد سحرنا في مقلع بولبون عام 2014 في إخراجه لجزء من ملحمة مهاباراتا الهندوسية. وقد حمَّل مِياغي نص سوفوكل الذي يأتينا من القرن الخامس قبل الميلاد معانيَ جديدة مستقاة من الفلسفة البوذية. نحن نعلم أنّ مسرحية سوفوكل تقدّم صراعاً بين قانون إلهي تحمل رايته أنتيغون يجعل من دفن الموتى، أيّ موتى، أصدقاءَ كانوا أم أعداء، واجباً مقدّساً، وبين قانون المدينة الذي يقدّم أمن الدولة ومصلحتها ويحمل رايته في المسرحية عمُّها كْرِيُون، حاكم المدينة، وهو قانون العقاب والرهبة، الذي يرى في ترك جثة «العدوّ» مُباحةً لنهش الحيوانات البريّة، عبرةً ِلمَنْ أراد الاعتبار. ف «العدوّ لا يتحوّل صديقاً عندما يموت»، كما يقول كْرِيُون، أي أنه يبقى عدوّاً إلى الأبد. والمعلوم أنّ «الصديق» و «العدو» أَخَوَان في مسرحية سوفوكل، كما أنهما أَخَوَا أنتيغون، إِتْيُوكل وبولينيس، وقد تقاتلا على عرش طيبة فهلك كلٌ منهما على يد الآخر. وقد دفنت أنتيغون أخاها بولينيس، رافضةً التفريق بين الأخ الصديق والأخ العدو، قائلة لعمّها: «لم أُخلَق للبغض بل للمحبّة» فكان عقابها، كما نعلم، أن تبعت أخاها إلى مملكة الموت. ويرى مِياغي في نشيد أنتيغون هذا صدى لتعاليم الفلسفة البوذية فيجعل من المأساة نشيداً يمجّد «محبّة البشر جميعهم ورفض التفريق بينهم». وهو يربط هذه القراءة بعالمنا المعاصر حيث تعصف رياح مدمّرة لأنها تُصنّف الناس نهائيّاً بين أصدقاء وأعداء، بين صالحين وطالحين، بين أهل الخير وأهل الشر، بين أهل الله وأهل الشيطان. والخير والشرّ ليسا في التعليم البوذي إلا صفات تصحّ على المرء في ظروف محدّدة من دون أن تقول جوهره. والسحر الذي لغطت به ألسنة المشاهدين والنقّاد معاً يكمن في جماليّة العرض حيث إنّ سينوغرافيا العمل تدلّ على فهم عميق ونادر للفضاء المسرحي ولخصوصيّته. فالمعلوم أنّ فضاء ساحة الشرف بخشبته الشاسعة وجداره الحجري القديم الشاهق «يسحق» البشر الذين يجولون فيه فيغدون كائنات قزمة تهيم على وجهها بلا أمل، كما أنّه غالباً ما لا يرحم عناصر الديكور محوّلاً إيّاها إلى زينة عارضة تتهافت أمام صرامة القرون المنقوشة في الحجر. وقد تميّزت السينوغرافيا هنا ببساطتها وجلائها وجلالها معاً. فالخشبة مساحة مائية داكنة تنتصب فيها بعض الصخور كأنّها امتداد طبيعي للجدار القديم على غرار القلاع القروسطية القديمة التي تتقدّمها خنادق مياه تردّ المُعتدين – والقصر البابوي قلعة من القرن الرابع عشر. والمياه تفرض نفسها كذلك في الفضاء المتخيَّل اليوناني فهي مياه نهر الأَكِيرون الذي يفصل عالمنا هذا عن مملكة الموت. في هذه المساحة المائية يتحرك الممثلون ببطء، حاملين في أيديهم شمعة منيرة، كأنّهم مشاعل حيّة تضيء الظلمة في ألبستهم الفضفاضة الناصعة البياض المشعّة كأنّها تضيء من الداخل ثم يختفون، على غرار البشر الذين يجولون فترة على سطح هذه البسيطة ثم يغرقون في الأكيرون. في عمق الخشبة، قريباً من الجدار، تحتشد أرواح الموتى، أرواح هي في الوقت نفسه الكوروس، يحملون الصوت ويعزفون على الآلات الموسيقية لأنّ المأساة تبسط ثناياها على أنغام إيقاعات تراثية تمتزج بالموسيقى الإلكترونية. ويستقي مياغي عناصر أساسية من المسارح التراثية الأسيوية. فعلى غرار مسرح النو (nô) الياباني التقليدي، يفصل الكلمة والحركة كما فعل في المهابارتا، فالدور الواحد يتوزع بين ممثلَيْن، بين أنتيغون المتكلمة وأنتيغون الممثلة الجاثمة على صخرة فوق المياه. ويقترب فهمه للكوروس اليوناني من مثيله في مسرح النو. كما استوحى مياغي عناصر من مسرح الظلال الإندونيسي ليأخذ في الاعتبار القاعة الشديدة الانحدار بمدرّجها المرتفع التي تجعل من الجدار، لا من الخشبة، العنصر الذي يواجه المشاهد، فرمى ظلالاً ماردة، ظلال الممثلين، على جدار القصر. وبذلك حيث يستعمل المخرجون الفيديو لكي يرى المشاهد في هذه المسارح الضخمة وجوه الممثلين ويقرأ انفعالاتهم على وجوههم، استخدم مياغي الأجساد في انفعالاتها ترتمي ظلالاً عملاقة على الجدار كأن المأساة تتخطّى المقاييس الإنسانية، فتتجلَّى في مشهدها الأخير حيث عبرت الشخصيّات جميعها إلى مملكة الموت ولم يبق إلا بعض الأنوار على صفحة المياه تطفو ثم تختفي، تتجلَّى المأساة حفلاً «لتَسْكُن الأرواح وتهجَع». ويقابل نشيد أنتيغون التي تقول في مسرحية سوفوكل «أن أكسب رِضى الذين وُورُوا في التراب واجبٌ علَيَّ أكبر من كسب رضى مَن أصحب في الحياة، فإنّني سأحلُّ بينهم إلى الأبد»، يقابل هذا النشيد ما يؤكده مياغي: «المسرح بالنسبة إليَّ سبيل للعودة إلى رؤيا مقدّسة [للكون] لم تعُد شائعة في زمننا. والذين يمثّلون هذه القدسية هم بالطبع الموتى لأن الأرض، ببساطة، تحوي عدداً من الأموات يفوق عدد الأحياء. وحده الاستماع إلى الموتى يتيح للمرء أن يحفظ نفسه من الكِبَر والتبختر». الأساطير اليونانية حضرت كذلك المآسي اليونانية الكلاسيكية في نهاية المهرجان في ماراتون مسرحي من ست عشرة ساعة أخرجه الفنان الإيطالي أنطونيو لاتيلّا، مدير مهرجان المسرح في البندقية المنعقد كلّ سنتَيْن. وأتت قراءة لاتيلا سياسية واجتماعية كذلك إلّا إنها، على نقيض قراءة مياغي، تروم إلى نزع القدسية عن أبطال المآسي القديمة كي تبحث عن معنى العائلة ووظيفتها في المجتمع المعاصر. فما من شكّ، يؤكد لاتيلا، في أنّ للعائلة في إيطاليا – وفي أماكن أخرى - وظيفة اجتماعية تصحّح فيه تقصير المؤسسات السياسية عن القيام بدورها. إلّا إنّها كذلك قد تكون مسرحاً للعنف والتعسّف اللذين يقودان إلى المأساة. وقد اهتم لاتيلا بثماني شخصيات مأساوية، منها أغاممنون وإفيجينيا وإيلان وإيلاكْترا وأوريست. والمقصود من دراستها دراسة مسألة الإرث الذي يُترك للخلف ومعنى الأُبُوة تحديداً. كيف يستطيع الأبناء أن يبنوا أنفسهم حين يكون إرث الآباء القتل والاغتصاب والأكاذيب والهجر والتخلّي؟ وقد حمل أسئلة المخرج هذه الذي لا يرى لنفسه إلّا معلماً واحداً وهو العمل، حملها بحماس وقدرة على الاحتمال يفرضان الإعجاب مجموعة من ستّة عشر فنّاناً شاباً قد تخرّجوا لتَوّهم من مدارس المسرح الإيطالية فهم لا يتركون الخشبة خلال الساعات الستة عشرة للمسرحية ويقدّمون تمثيلاً يشارك فيه الجسد بمجمله، في فضاء مسرحي مجرّد عنصره الأساسي طاولة مائدة. ويبقى المشاهد، في نظرنا، منجذباً إلى عروض جيدة التوزيع، تدوم بين الساعة والساعتين تتخللها استراحات طويلة. وقد نجح الإخراج والأداء في إضفاء عمق تراجيدي مقنع لبعض الشخصيّات، ومنها أغاممنون ممثلاً للسلطة الأبوية وإفيجينيا كمراهقة ثائرة. إلا إنّ ثمة جوانب أخرى أساسية في العمل المسرحي بدت أقل إقناعاً. ولم يستعد المخرج النصوص اليونانية بل طلب من سبعة كتّاب شباب إعادة كتابة المسرحيات انطلاقاً من نصوص إسخيليوس ويوروييدس وسوفوكل. وقد أتت هذه مرآة لعالم يسود فيه العنف وأحياناً الابتذال غير الضروري. كما لم يخدم ربّما إشكاليةَ المخرج المنحى الهزلي المقصود في بعض المشاهد، وهو منحى جعل من إيلان مثلاً شابة ترتدي الفراء والكعب العالي وتتلوى على حصان خشبي ملوّن يدور عليه الأطفال.