لا يمنع أي شيء الكاتبة والروائية والطبيبة نوال السعداوي من أن تقول ما تؤمن به وتفكر فيه، غير عابئة بما إذا كان هذا سيغضب كثيرين ممن يتابعونها بتحفز أو تربص أو رغبة في الرد عليها، وتفنيد ما تقول، أو حتى عموم الناس ممن اعتادوا تفكيراً وطقوساً محددة، بعيدة كل البعد مما تريده هي وتملأ به الفضاء الاجتماعي والإعلامي، بمقدار ما يتاح لصوتها أن يخرج، فيجد خصومها في ما تقول وتكتب فرصة سانحة كي يؤلبوا عليها عوام الناس، أو أولئك «المتعلمين الأميين» حسب تعبيرها هي، ليرموها بالمروق والفسوق والتمرد والخروج على قيم مجتمعها، والإخلاص لقاعدة «خالف تعرف» وفعل أي شيء من أجل لفت انتباه الغرب، وهو اتهام زاد بعد أن ظهر اسم السعداوي من بين المرشحين لجائزة نوبل في دورتها قبل الأخيرة. في الحقيقة ليس الأمر على هذا النحو، فنوال السعداوي، التي تحمل على ظهرها أربعين كتاباً أكثر من نصفها روايات ومجموعات قصصية ومسرحيات ومذكرات، لديها ما تقوله، حتى لو كان هناك من يختلفون معه، ويقدحون فيه، وهو حق مكفول شرط ألا يدعو المختلفون إلى اغتيال معنوي أو حتى جسدي للسعداوي، التي يظل ما يصدر عنها من أقوال وأفعال يعاني من إغفال وإهمال، بل تعتيم، في بلادنا، بينما هناك في الغرب من يتابعها، وينظر إليها باعتبارها واحدة ممن يناضلون من أجل تحرير المرأة العربية من كل ما يعيق مساواتها بالرجل، وكذلك إسقاط كل حضور ل «الأبوية» في حياتنا، ومواجهة أي عناصر مادية أو رمزية للتسلط، ويرى أن كل هذا حاضر ليس فقط في مقالاتها ودراساتها ومحاضراتها وحواراتها الصحفية والمتلفزة، بل أيضاً في ثنايا نصها السردي، الذي يدور حول تلك الأفكار، أو هذه المعاني، بلا تردد. وكانت ذروة الاهتمام الغربي بالسعداوي هي أيام استضافتها ضمن برنامج «الزيارة السنوية لمشاهير أفريقيا» الذي يشرف عليه قسم الدراسات الأفريقية بجامعة ميتشجان- فلينت الأميركية، ويتم خلاله اختيار أحد أعمال الضيف لتكون محل دراسة متعمقة بالمنطقة التعليمية التي تقع الجامعة في نطاقها وبها أكثر من 84 ألف طالب حتى الصف الثاني عشر. وقد بدأ هذا البرنامج باستضافة النيجيري الحاصل على نوبل في الآداب وول سونيكا، والكيني نيجونو ثيونجو المرشح الدائم لنوبل في السنوات الأخيرة وغيرهما من كبار الأدباء والكتاب. وكانت حصيلة زيارة السعداوي تقديم دراسات وبحوث عدة معمقة عن كتبها ورواياتها وقصصها ومسرحياتها وشخصيتها ومسارها إلى جانب حوارات معها وببلوجرافيا لها، ليصدر هذا في كتاب حرره إرنست إيمنيويو الناقد وأستاذ الأدب الأفريقي في الجامعة المشار إليها سلفاً ومورين إيك أستاذ الأدب الإنكليزي في جامعة سنترال ميتشجان، وترجمته القديرة سها السباعي، وهي أيضاً كاتبة وعضو تحرير مجلة توليبس الأميركية لترجمة النصوص الأدبية من العربية إلى لغات عدة، ليصدر في القاهرة أخيراً عن «المركز القومي للترجمة» تحت عنوان «قراءات في أعمال نوال السعداوي»، وهي لعدد من علماء اللغة والنقاد وأساتذة الأدب الإنكليزي والمسرح ومختصين في تاريخ الفن والدراسات الأفريقية والنسوية. ويحوي الكتاب، الذي بدا كأنطولوجيا كاملة عن الكاتبة، تسع عشرة دراسة حول تصدي السعداوي للمزاعم الدينية، وتحطيم بعض المعتقدات الخاطئة، ومحاولتها المستمرة لكشف الحجاب عن العقل، ووقوفها في وجه الطغيان الذكوري في المجتمع والتاريخ والرمز، ومحاربتها لقضية «ختان البنات» سواء في مقالاتها ودراساتها وشهادتها وأعمالها السردية، وتجربتها المؤلمة في سجن النساء، وانتصارها للمرأة العربية في مجال التعليم والعمل والحقوق الاجتماعية والأوضاع الإنسانية، ومقاومتها لما يسمى «الاستعباد الجنسي» و «سياسات الجنوسة»، وضرورة التمسك بحق المساواة، ولسوء استغلال السلطة الذي قاد إلى الاستبداد والفساد، واصطفافها في المعركة ضد التطرف الديني، والتصورات الفقهية المغلقة والجامدة المكبلة الحرية والعقل، وتأثير العولمة والتوحش الرأسمالي على وضع الإنسان عموماً، والنساء على وجه الخصوص. ويشمل الكتاب أيضاً شهادة من الشاعرة والكاتبة منى حلمي، ابنة نوال السعداوي، عن أمها، وحوارين معمقين معها، إلى جانب سيرة ذاتية وافية. لا تبدو السعداوي في نظر من درسوا أعمالها المرأة القوية التي يقتصر دورها على رد الفعل القوي والبعيد لفعل قوي وبعيد في الاتجاه الآخر، إنما هي صوت أصيل نازع إلى التحرر والتمرد، وعقل رافض للمنتج المعرفي والتعليمي المعلب الذي يسيطر على أذهان غالبية الناس، ما يجعلهم ليس فقط رافضين لها، إنما غير مستعدين للإنصات إليها، علاوة على نقاد تتهمهم بتجاهلها عمداً لأنهم لا يأخذون إنتاجها الروائي والقصصي على محمل الجد، أو يرمونها بالسعي الدائم والدائب إلى أن تظل في دائرة الضوء في أي شكل، وهو حكم على نياتها لا يجب أن يصدر عن مثقفين، أو هم ينظرون إلى نصوصها السردية على أنها مشبعة بالأفكار المجردة، والرؤى السياسية الواضحة والفاضحة، وهي مسألة ترد عليها السعداوي بقولها: «السياسة كامنة في كل شيء، حتى في المطبخ». ويبن الكتاب أن غلبة التقاليد المعوقة، وانتشار التطرف الديني، وغياب التفكير العلمي، أسهم في ذهاب السعداوي إلى الاتجاه المضاد بالدرجة ذاتها من العمق والاتساع، الأمر الذي يجعل آراءها متبلورة على هذا النحو الصادم للبعض، بخاصة الذين يتهمونها بمعاداة الإسلام، مع أنها تقول بوضوح: «لقد تربيت على الإيمان بالمبادئ الأساسية للإسلام، كان الإسلام لي دائماً الإيمان بالله، وروح العدل، والحرية، والحب». ويعطينا الكتاب درساً بليغاً عن ضرورة التعامل مع آراء السعداوي، حتى لو بلغت حدتها الآفاق، ومهما رآها بعض المحافظين خروجاً على الدين أو العادات والتقاليد، بروية وحكمة، دون قمعها أو تكفيرها أو حجب ما تقول بزعم أنه هراء أو خطر، إنما بمناقشتها والنظر إلى الدوافع التي جعلتها ترى ما تراه، لا سيما أنها تتلاقى وتتقاطع مع كثير من الآراء التي يطرحها المستنيرون دينياً، ودعاة الإصلاح والتجديد، والمطالبون باحترام العقل والإرادة الإنسانية وحق التفكير والتعبير والتدبير. وبدا لمؤلفي الكتاب، وجميعهم من المتحمسين لأفكار السعداوي، أن المجتمعات تحتاج دوماً إلى من يضع كل ما يتم تداوله من أفكار وما يتم فعله من طقوس تحت طائلة المساءلة، وهذا ما تفعله السعداوي بقوة وجرأة، غير هيابة ولا مترددة، وهو ما عبر عنه محرر الكتاب قائلاً عن لقائه بها: «منحتني السعداوي فرصة أحسد عليها للتعرف عن كثب بشخصية، ربما لا تكون فقط أكثر المؤلفات النسويات جرأة ومعارضة في العالم في شكل يتعذر معه كبح جماحها، ولكنها أيضاً شخصية ساحرة بشكل مذهل، وشديدة التمسك بالمبادئ، شخصية تدافع للنهاية عما تعتبره الحق والعدل والجمال، مهما كانت الصعاب والمخاطر التي قد تتعرض لها حياتها وأمنها الشخصي». إن هذا الكتاب، فضلاً عن تشريحه نوال السعداوي من أوجهها كافة، فإنه يقدم نموذجاً في النقد الثقافي، الذي يتجاوز النظرة الضيقة والجزئية والسطحية والعابرة للنص التي تكتفي بعرضه أو تلخيصه ثم تفسيره من جانب واحد، إلى الوصول إلى أعماقه البعيدة، لمعرفة القيم الكامنة فيه، والسياقات التي أحاطت به، والأساليب والتقنيات السردية التي صُنع بها، وتفاعلاته مع مختلف المعارف، بما جعله، في خاتمة المطاف «دليلاً في أيدي الباحثين المهتمين بالدراسات الأدبية، ودراسات المرأة والهوية والجنسية ودورها الاجتماعي».