بدا مشهد الاشتباكات الدامية التي اندلعت بين أنصار الرئيس حسني مبارك ومعارضيه في ميادين عدة في مصر أمس «مرعباً»، قد يؤسس لمرحلة جديدة من الفوضى ما لم يتم السيطرة عليها. وسقط قتلى ومئات الجرحى في هجوم مؤيدي مبارك على المتظاهرين المطالبين برحيله في ميدان التحرير وسط القاهرة، على ظهور الخيول والجمال مسلحين بالسيوف والعصي والسكاكين، فيما التزم الجيش «الحياد». وتمكن الرئيس بإعلانه أنه لن يترشح في الانتخابات المقررة الخريف المقبل وطلبه تعديل مادتين من الدستور تتعلقان بالترشح للرئاسة، من شق عصا الإجماع ضده، إذ اعتبر معارضون الإعلان غير كافٍ، فيما رأى آخرون أنه خطوة تستجيب للمطالب المرفوعة. واستغل النظام هذا الانقسام في حشد تظاهرات مضادة لتلك المطالبة بإسقاطه، اجتاحت أمس ميدان التحرير بالأسلحة البيضاء والعصي وهي تهتف مطالبة مبارك ب «البقاء»، ليسقط مئات المصابين في الاشتباكات التي استخدمت فيها أيضاً الحجارة والزجاجات الحارقة. وكان لافتاً طلب الجيش الذي ظل ملتزماً «الحياد» منذ اندلاع الأزمة، من المتظاهرين فض اعتصامهم، فيما ظهر رجال دين وممثلين للمطالبة بالتعقل ووقف نزيف الدماء. واتهمت المعارضة النظام باللجوء إلى «بلطجية» ورجال أمن لإرهاب المتظاهرين وترويعهم، لكن وزارة الداخلية شددت على أن لا رجال أمن بين المتظاهرين في الجانبين. وكانت الأجواء الملتهبة بدأت فور انتهاء مبارك من إلقاء خطابه، إذ خرج مئات يجوبون منطقة وسط القاهرة مرددين الشعارات المؤيدة للرئيس الذي بدا أنه قرر أن يخرج آخر ما في جعبته بعد أن تخلت عنه قوى دولية طالما ظلت حليفة تحت وطأة الحشد الجماهيري الذي قدرت أعداده أول من أمس بالملايين. وبدأت الحشود المؤيدة للرئيس في التوافد إلى ميدان التحرير، فنشبت تلاسنات وكادت الاشتباكات أن تندلع لولا تدخل الجيش في البداية مساء أول من أمس وإصراره على الفصل بين الجانبين والطلب من مؤيدي الرئيس التعبير عن آرائهم في مكان بعيد كي لا يستفزوا المعارضين. وظل المؤيدون يجوبون وسط المدينة وميادين أخرى رافعين صور مبارك. لكن حين أطل صباح أمس زاد التوتر وانتشرت المشاحنات على الحواجز التي أقامها الجيش عند مداخل ميدان التحرير. أحاديث لا تخلو من شتائم واتهامات بالعمالة والخيانة بين المؤيدين والمعارضين. وبعد ساعات اقترب المؤيدون المتجمعون في ميدان الشهيد عبدالمنعم رياض من تجمع المعارضين في ميدان التحرير الذين باتوا بالآلاف بعدما كانوا مئات الآلاف. تخطى المؤيدون آليات الجيش الفاصلة ليصبح الحشدين في المواجهة. الجمال والخيول تشق صفوف المعارضين يمتطيها رجال يضربون رؤوس المعارضين بالحجارة والجنازير. الدماء تسيل لتشتعل حدة المواجهات. السماء تمطر حجارة من كل اتجاه وفي كل اتجاه. كر وفر ينتهي بإطلاق الجيش أعيرة نارية في الهواء لوقف «المهزلة». وتتحول الاشتباكات إلى حرب عصابات في الشوارع الجانبية. المؤيدون والمعارضون اختلطوا وبينهم شباب فضّلوا ألا يكشفوا عن توجههم بعدما بات «التربص» سيد الموقف. وفي ميدان مصطفى محمود في حي المهندسين، تجمعت آلاف أخرى ترفض رحيل مبارك وتطلب رحيل المعارض البارز المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي، قادها ممثلون ولاعبو المنتخب الوطني لكرة القدم وشخصيات عامة. هؤلاء يرون أن الرئيس حقق مطالب المعارضة وبالتالي لا داعي إلى الإصرار على رحيل رجل «خدم مصر لسنوات». وتكرر مشهد الاشتباكات ومسيرات «الرحيل» و «البقاء» في محافظات أخرى أبرزها الإسكندرية وحلوان. المعارضة، تباينت ردود أفعالها إزاء خطاب مبارك والأوضاع على الأرض، فالبرادعي حذر من «حدوث عمليات سفك للدماء»، مشدداً على ضرورة تنحي مبارك فوراً. وهو يرى أن الحكومة استخدمت «الترويع» للتشبث بالسلطة، وان «النظام يلجأ إلى أفعال إجرامية» وأنه «يشجع الاشتباكات لإنهاء الاحتجاجات»، متسائلاً: ««لماذا على المصريين أن يبقوا عليه (النظام) سبعة أشهر من عدم الاستقرار وانعدام الأمن والترويع؟». وأعربت حركة «كفاية» عن «خيبة الأمل العميقة إزاء خطاب مبارك الذي تجاهل مطالبنا». وشددت على ضرورة أن يرحل مبارك الآن، وهو النهج نفسه الذي اتخذه «الإخوان المسلمون» الذين أعلنوا رفض الحوار مع «من يريد الالتفاف حول انتفاضة الشعب ليجهضها ولا يستجيب لمطالبها». وقالت الجماعة في بيان إن مبارك «خرج علينا ليؤكد تمسكه بالسلطة واستمراره في المنصب بمنتهى العناد، ضارباً بعرض الحائط مصلحة الشعب والوطن، غير عابئ بالخسارة والخراب والقتل والدمار الذي حدث، طالباً فرصة ستة أشهر ليقوم بالإصلاح». واعتبرت أن «الشعب المصري يأبى أن يقرر هذا النظام مصيره، ويرفض كل الإجراءات الجزئية التي طرحها رأس النظام في حديثه، ولا يقبل برحيل النظام بديلاً». ودعت الجيش إلى «أن يظل منحازاً لمطالب الشعب حتى تتحقق، وأن يمنع الاعتداء الآثم على المتظاهرين». واعتبرت أن النظام «يراهن على الوقت، ولذلك ينبغي أن نتذرَّع بالصبر، ونعتصم بالثبات». واعتبر زعيم حزب «الوفد» المعارض السيد البدوي أن الاشتباكات الدموية في ميدان التحرير «حماقة سياسية»، مطالباً الحزب الحاكم ب «التوقف عن الحماقة». واشترطت أحزاب «الوفد» و «التجمع» و «العربي الناصري» وقف «ما يحدث من انتهاكات بحق المتظاهرين في ميدان التحرير قبل بدء الحوار مع السلطة»، مؤكدة أنها «متمسكة بكل مطالب الإصلاح التي عبّر عنها وطالب بها الشباب». وشدّدت على أنها «لا تعبر عن الشباب ولا تقفز فوقه ولكن تسعى إلى تنفيذ مطالبهم»، فيما أعلنت أحزاب صغيرة قبولها الحوار الذي دعا إليه نائب الرئيس عمر سليمان، «لما تمر به البلاد من مخاطر سياسية واضطراب أمني وللحفاظ على سلامة هذا الوطن والمواطنين». وكان مبارك أعلن أنه لن يترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة، مشيراً إلى أنه سيعمل خلال الأشهر المتبقية من ولايته الحالية التي تنتهي في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل على «انتقال سلمي للسلطة». ودعا «البرلمان بغرفتيه (الشعب والشورى) إلى تعديل المادتين 76 و77 من الدستور بما يعدل شروط الترشيح لرئاسة الجمهورية ويعتمد فترات محددة للرئاسة»، كما طالب البرلمان ب «الالتزام بكلمة القضاء وأحكامه في الطعون على الانتخابات التشريعية الأخيرة من دون إبطاء». وأكد ضرورة محاسبة المسؤولين عن الانفلاتات التي حدثت. وأوضح رئيس مجلس الشعب الدكتور فتحي سرور أن تعديلات المادتين 76 و77 «لن يستغرق أكثر من شهرين ونصف الشهر»، موضحاً أن في حال إقرارها ستعرض على الشعب في استفتاء عام. ولفت إلى «ضرورة تعديل قانون الانتخابات الرئاسية، لأنه مكمل للدستور». وتوقع «تغير تركيبة المجلس بزيادة نسبة المعارضة». واتخذت وزارة الخارجية المصرية موقفاً لافتاً أمس، رفضت فيه حديث أطراف أجنبية عن أن «مرحلة انتقالية تبدأ في مصر الآن». واعتبرت أنه «يهدف إلى تأجيج الوضع الداخلي». وقال الناطق باسم الخارجية حسام زكي إن تعهدات مبارك «أرست خريطة طريق واضحة لتنفيذ المطالب الشعبية بما يقطع الطريق تماماً أمام مساعي بعض الأطراف والقوى للاستمرار في إشعال الأوضاع الداخلية في مصر». ورأى أن الحديث عن «مرحلة انتقالية ذات ترتيبات مغايرة» لما أوضحه مبارك «يتناقض مع الدستور، بل وينقضّ على الشرعية الدستورية في شكل واضح»، ما من شأنه أن «يضع البلاد في مأزق دستوري تاريخي وهو ما تعهد الرئيس مبارك بتفاديه». وقال زكي إن «الاحتكام إلى الشارع في هذه اللحظة يظهر في شكل واضح أن المطالب التي يسعى البعض إلى ترويجها سياسياً مثل المرحلة الانتقالية لا تحظى بإجماع شعبي، وأنها تشكل مطالب لأفراد وجماعات سياسية محددة تريد الاستفادة من الظرف الحالي من أجل تحقيق أهداف ومكاسب سياسية». واعتبر أن «من المؤسف للغاية أن نجد دولاً أجنبية غربية مثل الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا، بل وحتى تركيا التي تبحث لنفسها عن دور في أي وضع، تدس أنوفها في ما تشهده مصر من تطورات». وقال إن «تلك الدول سمحت لنفسها في شكل متجرئ وغير مسبوق بالتحدث باسم الشعب المصري وتبني مطالب قطاعات منه وهذا أمر مرفوض تماماً من جانب مصر حكومة وشعباً».