أشلاء متناثرة. صرخات متقطعة. شوارع ملطخة بالدم. جثث. مركبات مشتعلة ومبانٍ تهوي. هذه المشاهد ليست من لعبة فيديو، بل حصيلة لقطات مقاطع إخبارية مباشرة، تنافست في عرضها مختلف القنوات أخيراً. كل هذه المشاهد تستعصي على استيعاب العقول الصغيرة والقلوب البريئة لأطفال تجمدت عيونهم على شاشات التلفزيون، فنشأ لديهم نوع من الخوف والقلق من شيء ما مجهول. خالد الذي لم يتجاوز عمره سبعة أعوام، يعاني من خوف وقلق شديدين بعد أن انتظم مع والده في متابعة أحداث الساعة، واضطرت والدته لمشاركته المعاناة العربية ليبقى فلذة كبدهما من أصغر شهود الإثبات على الظلم والعدوان رغماً عن طفولته. وتقول والدة خالد: «على رغم أنني أحاول جاهدة إقصاءه عن المناظر المرعبة ومشاهد الحرب والتظاهرات العنيفة، يصر على الجلوس برفقة والده الذي لا يأبه بوجود ابنه إلى جانبه، فتراه يلقي ألفاظاً نابية أثناء متابعته نشرةَ الأخبار». هذه التصرفات دفعت خالد إلى مناصرة والده لفظياً، إلا أن حالته النفسية أخذت بالتردي وكذلك صحته البدنية، كما تقول والدته التي تضيف: «اصطحبته إلى اختصاصي نفسي، وجّهني إلى تجنيبه مشاهدة هذه النوعية من البرامج الإخبارية، ومضاعفة احتوائه وإشعاره بالاطمئنان». وشنّت الطفلة هديل حملة من الأسئلة على والدتها وهي تشاهد نشرة الأخبار: «لماذا يضرب الشرطي الناس؟ هل كلهم حرامية؟ هل الديناصورات أشعلت مركبات ومباني المدينة؟ لماذا لا يعالج الطبيب الممددين على الأرض؟ أين عريف الفصل لا يكتب أسماء المشاغبين في الشارع؟». تساؤلات كثيرة اضطرت ازاءها الوالدة الى مصارحة ابنتها وشرح طبيعة الأحداث بأسلوب يتناسب مع عمرها بدلاً من الكذب عليها. الأم التي كانت تعتمد، سياسة تمويه الحقيقة عن ابنتها بخصوص ما يحدث في العالم، توضح: «كنت أعرّف لها القنابل الدخانية على أنها مفرقعات العيد، أما بالنسبة للعراك بالأيدي، فلم أجد تبريراً أفضل من كونه مصارعة لاعبين، لكن للأسف كثرة المشاهد والنقاشات التي تدور بين أفراد أسرتي من جهة والزائرين من جهة أخرى حول الاضطرابات الحاصلة في عدد من الدول وتأزم الوضع السياسي... كل هذا كشف خداعي لابنتي، وجعلها تتناول الصورة في شكل فرضه عليها محيطها بطريقة غير مباشرة، ما دفعني إلى تبسيط صور الأحداث بأسلوب سلس». ازدادت حيرة هديل، بعد أن مرّت أمها على أحداث تونس، ثم استقرت على الأحداث المصرية، لتسقط عيناها على الاشتباكات بين أفراد من الشعب مع الأمن المركزي، فعادت للتساؤل: «ماما، أنت دائماً تقولين لي الإخوان ما يضربون بعض، ولا يخربون بيتهم، لماذا هؤلاء يفعلون ذلك؟». اضطرت الأم بحسب قولها إلى الغوص في أغوار الكتب التربوية والمواقع الإلكترونية المختصة بعالم الأطفال والطريقة المثلى للتحاور معهم بهذا الخصوص». ولم يفهم معلم الفنون عبدالرحمن شيئاً من لوحة طالب لديه، رسم بعض الدوائر المتداخلة، وأشلاء ونوافذ مهشمة ومسدسات في يد شخص له أنياب وقرون، عندما منح طلابه حرية اختيار موضوع اللوحة. ويقول: «على رغم تباين رسومات الطلاب وتفاوتها بين شخصيات كرتونية وأخرى رياضية وثالثة أسرية يجسدون فيها هيئات والديهم من وجهة نظرهم، إلا أن رسومات هذا الطالب كانت أكثر غموضاً وعنفاً عن الباقين». ويضيف: «في السابق اعتدنا شكوى زملائه من ضربه وتعنيفه الدائم لهم، أما الآن فقد تطورت حالته لينعزل عن أقرانه ويزداد شروده وتشاؤمه وبكاؤه، ما اضطرني إلى إبلاغ المرشد الطالبي عن حالته، وهو بدوره تواصل مع أسرته ليكتشف أن «بذرة العدوانية» نمت في أعماقه بعدما شاهد بأم عينيه قتل ابن عمه أخاه الأكبر بالخطأ، أثناء تنظيفه سلاحاً قبل عامين. فضلاً عن تعرّض أخيه الأوسط – المقرب منه - والمبتعث إلى إحدى الدول العربية التي تشهد صراعات داخلية وتظاهرات سياسية، إلى إصابة خطيرة في الجمجمة، وبكاء أسرته عليه، زاد من حاله سوءاً وساهم في تدهور نفسيته». ويتابع: «لم نجد حلًّا لتخفيف معاناته سوى استغلال حصص الاحتياط في ممارسة الرياضة ولعب الكرة ومحاولة إسناد عدد من الأعمال المدرسية له سعياً لتشتيت انتباهه عن مأساته». وتؤكد الاختصاصية النفسية مها العتيبي أن «التبول اللاإرادي» والاضطرابات العصبية والكوابيس والميل إلى التشاؤم واليأس، إضافة إلى قلة الشهية وسرعة ضربات القلب وفقدان الشعور بالأمان والاطمئنان والصداع المتقطع، تعد من أبرز الأعراض المرضية التي تصيب الطفل نتيجة ما يتعرض له من العنف بأشكاله. وتعتبر وقوفه شاهد عيان على مناظر الجثث والإصابات والتخريب، أشد تأثيراً بأضعاف عن استقبال الأحداث عبر القنوات الفضائية. وتضيف: «في شكل عام، لقطات العنف وصور الجثث والمباني المتهدمة تؤثر في سلوك الطفل، اذ يختزنها عقله الباطن، ويبدأ في التعبير عنها من طريق الرسم تارة وممارسة السلوك العدواني مع غيره تارة أخرى». وتذكر أن الصدمات الشديدة الناجمة عن مشاهدة ضحايا الحرب والقتل والانتفاضات المتكررة، تؤثر في قدرات الطفل العقلية وتقلص النمو الانفعالي لديه، مشيرة إلى ضرورة سعي الأبوين الى التخفيف من وطأة الأحداث على عقل وفكر أبنائهم باحتضانهم وإشعارهم بالأمان والاطمئنان، والتأكيد المستمر لهم أن الأحداث بعيدة من مكانهم، وفتح باب الأمل لهم بزوالها والإجابة على أسئلتهم بأسلوب مبسّط ومختصر يناسب عقولهم، وتقنين مشاهدة البرامج الإخبارية تدريجاً، وحضّ أطفالهم على ممارسة الرياضة والألعاب الحركية.