حين جئنا إلى هذه البلاد، وجدنا فيها من جاءَ إليها قَبْلنا. حينَ رأيْناهم كُنّا نَعْجبُ كيفَ أنهم ما زالوا مِثلنا يتحدثون ويأكلون ويمشون في الأسواق. أرْدِيَتُهُم مثل أرْدِيَتنا وشعُوُرهم لا تلْصفُ. كيفَ أنهم لمْ يُمْسكوا بتلابيب هذه البلاد؟ كيفَ أنهم لا يجيدون لغتها جيداً ولهم لكْنَة ولَثْغَة فاضحة؟ كيف أنهم ما زالوا يجعجعون ويضجون مثلنا؟ كُنّا لا نعرفُ ما أمامنا من آفاقٍ أو غيوبٍ، فلماذا لا يَدُلّوننا على كل شيء بهيج أو نافع هنا؟ كنا نريد أن نفهم ماذا يعني العيش في هذه البلاد. كل خُطوة نخطوها كانت مغامرة. كنّا نريد حكايةً واحدةً، إشارةً واحدة تفكّ لنا مَغاليقَ البلاد / الحياة الجديدة. لمْ يحدثْ هذا ولذلك كنّا نَظنّ أنهم يُخْفون عنّا الكثير من الأشياء أو أنهم مثل الطَّنَاطِل. نتساءلُ: هلْ هُمْ من تلك البلاد مثلنا؟ كنّا نَسْتَخِفُّ بِهِمْ ونَهْزأُ منْهم ونَنْعَتُهم بأقبح النُّعُوت ونتحاشى رُؤْيتهم. مرّتْ ثمانيَ عَشْرة سنة وأنا في هذه البلاد. في الخميس الماضي كانتْ السّماء تُقَطْقِطُ وقدْ هطلَ صَقِيعٌ كثيرٌ في الضُّحى. ارتديتُ قَمْصَلَةً مِنْ جلد الماعز (أهدانيّها عبّاس قبل سبعة أعوام وما زلتُ أستعملها كلّ شتاء)، وذَهَبْتُ إلى سُوق الزُّرّاع لأشتري بَطّيخةً حمراء أو رَقّيّة. وَقَفْتُ أمامَ بائع الرّقّّي المُخَطّطِ الطويل وحَمَلْتُ واحدةً بيدي ثمّ نقرتُ عليها بأصابعي ووَضَعْتها على أذني لكي أنصتَ إلى طبيعة الصوت، الذي يُحْدُثه النّقْر، كيفَ ينتقلُ في لُبّها ومركزها، كي أحدّدَ درجة نُضْجها وإدراكها أو ما إذا كانَ مذاقها لَذيذاً أو سَقيماً. حِيلة خبرتها حينَ كنتُ في تلك البلاد. تُخْطئ وتصيبُ ولكن زوجتي تصرّ عليها. وبينما كنتُ أقايضُ البائع، التفتّ فإذا بمجموعة من الفتيان ينظرون إليّ، لم أعرفْ ملامحهم لكثرة المارّة والزبائن. ذهبتُ بعدَ ذلك إلى دُكّان البقالة الشرق - أوسطية. حملتُ زنبيل الدكّان ووضعتُ فيه عُلْبة العَمْبَة (تُلفظُ الباء مُضَخّمة) وكيساً من عَدَس الشام. وبينما كنتُ أطوفُ بين رفوف الدكّان للتأكّد من أنّني قد اخترتُ أجودَ أو أرخصَ ما كان مُتَوفّراً، سمعتُ مجموعة من الفتيان يتحدثون مثلنا، هُمُ الفتيان الذين رأيتهم قبل برهة في سوق الزُّرّّاع. كانت عيونهم شاخصة. فرحتُ وقلتُ لنفسي: وَجَدْتُ أخيراً في المدينة من سأحدّثه ويحدثني مثل أحاديثنا الأولى في البلاد التي جئنا منها. اقتربتُ منهم وسألتهم ما إذا كانوا من تلك البلاد. تَبَيَّن لي أنهم قد قدموا إلى هذه البلاد قبل بضعة أشهر. حاولتُ اجتراح أحاديث معهم على هذه الشاكلة: ماذا تعمل؟ أين تسكن؟ هل ذهبتَ الى مدرسة اللغة؟ كان كل سؤال أو إجابة مثل حَشْرَجَة. كانت عيونهم طوال اللقاء القصير تُحدّق في الزنبيل وما فيه. ولشدّة تَحْديقهم رَفَعْتُ عُلْبَة العَمْبَة إلى الهواء وقلتُ: أنظروا هذه عَمْبَة مثل عَمْبَة البلاد التي جئنا منها، يمكنكم أن تجدوها هنا في هذا الدكان. فقاطَعَني أحَدُهم قائلاً: بَلْ هذه ليستْ مثل عَمْبَة البلاد التي تُصْنعُ من ثمار الأنْبَج والتي تحملُ علامة السفينة. إذا أردتَ تلكَ العَمْبَة فستجدُها في دُكّان الهندي في الطرف الآخر من المَدينة. قالَ هذا بمرارة ساخِرَة والتفت إلى صحابته وضَحكُوا. وسألَني أحدُهم بمَكْرٍ ما إذا كنتُ قد تأكّدْتُ من نُضْج الرّقّيّة قبل الشراء. كانت لغة أجسادهم توحي بما لم ينْبُسوا به. تأرجحَ بندولٌ! الفلكُ يدورُ! رنّ جرس الذكرى وأدركتُ ما أنا فيه. عَجِبوا من مَرْآيَ وبضاعتي مثلما عَجِبتُ من مَرْأى الأوّلين وما وجدتُهم عليه. قلتُ لنفسي ساعتئذ لو كنتُ أعرفُ بوجودهم لتحاشيتُ الاقتراب من العَمْبَة والعَدَس، إذ ليس هنالك من طريقة أفضل لخلقِ انطباع أوّلِي سَيئ مثل رؤيتهم إيّاي وأنا أحْمَلهما. ذلك أن العَمْبَة والعدس في البلاد التي جئنا منها كانتا طعام المُعْدَمِين أو لا يأكُلُهما إلا من لا يجدُ ما يَأتدمُ به. هذا ما كنتُ أتَذكّره، ولكن في سِنِي الحِصار في التسعينات سَمِعْتُ أنّ مآكلَ الناس ومَشارِبَهم تَغَيّرَتْ كثيراً وأصبحوا يستسيغون ما كانُوا لا يستسيغون ولا يستسيغون ما كانُوا يستسيغون. كان السؤال الذي يُحَيّرهم ولم ينطقوا بِهِ هو: كيفَ يمكن أحَدهم أن يعيشَ في هذه البلاد ثمانيةَ عَشَر عاماً وما زال يعتاش ويأتدمُ على حساء العدس ومُخَلّلات العَمْبَة. ما الذي كنتَ تفعله طوال هذه السنين؟ لقد رَمَيْتَ بشصّك في الماء عَمِيقاً، فما صيدك؟ ما جدوى المغامرة إذاً؟ تفرقنا وكان هنالك شيء مثلَ الامتعاض. كان شعوراً متبادلاً. يعكسُ هذا الشعور هواجس كثيرة تَعْتَلِجُ في صَدْرِ القادِم، محاولة القادم تَوّاً أن يَسْتَخْبِرَ ويَسْتَشِفَّ ما هو فيه/عليه، وكذلك يَعْكسُ هَلَعَهُ وإنْكاره لما يمكن أنْ يكونَ عَليه بَعْدَ مُرُور الأيام. ذلك أن القادم تَوّاً يَرى صورَتَه أو نفسه في القادِم قبله. يراها ثُمّ يرتعبُ. أين السعادة والنجاح؟ حَسِبناها بحْبُوحَةً وغِنى، فإذا هي ضَنكٌ وضَنى! هذه الدّهْشة الأولى، الانطباع الأوّل هو ما كان يَصْحَبُني، بلْ ما زال يَصْحَبُني وأغالِبُهُ فأَغْلُبُهُ أحْياناً ويَغْلُبُنِي كلّما التقيت مَنْ جاء قَبْلي إلى هذه البلاد بأعوام أو عقود. أتساءلُ إذا رأيت أحدهم: كيف أفلتتْ مِنكَ الفُرص؟ كيف أفرطّتَ؟ ألا تعرف من أين تؤكل الكتف؟ ولكن كيف جاؤوا وكيف جئنا؟ جاء بنا ما جاء بهم: نشدان الأمان، النجاح، السعادة. مثلما بَسَطُوا بأيديهم إلى الحياة، بَسَطْنا بأيدِينا لنَغْرِفَ منها فلَمْ يأتِ شيءٌ بالغرابيل! ليس هذا فحسب، فقد ساءَ الأمر الآن كثيراً. كيف؟ إذا لقتيتَ بأحدهم وسألته أو سألكَ أين عِشْتَ في تلك البلاد فإنّما تَعْني وإنما يَعني ما هو تَمَذْهُبُك. مسقط رأسه أو مكان نشأته يُعلمك برؤياه ورؤيته. هذا هو المعنى الحقيقي الذي يتضمّنه السؤال ويضمره، أي سؤال. أو على الأقل هكذا يبدو كل شيء. هذه هي فحوى الحديث. يا لهُ من لقاء زائل مثل ظل يُحدث فيك وسواساً طويلاً ويؤرقك! حين عُدتُ إلى البيت/الشقّة، طبختُ العدس وتناولته. كان فيه حصى كثير. نظرتُ إلى قمصلتي في المرآة. بَدَتْ لي مثل بَرْذَعة. تذكّرّتُ أنّ أحدنا في البَدْء يَحْسبُ أنه هو الذي هَجَرَ البلاد وأنه هو الذي رَمَحَها، ولكنّه ما إن يَلِجَ عَتَبَةَ الأرْبعين حَتّى يَتَشَكّى كيفَ لََفََظَتْهُ البلاد؟ غَشِيَني شَيءٌ يشبهُ الوَجْد فغنّيتُ: يا شافي غَلِيل القَطا فِي مَفاوِزِهِ ويا رازِقَ العُصْفُور إرْزقْني رَغِيفاً. هوامش 1. العَمْبَة أو العَنْْبَة: مُخَلّل يُصْنَعُ من الأنْبج والخل والتوابل الحِرّيفَة ويؤكل مع الكثير من الأطعمة وبخاصّة الشطائر التي يحضّرها الباعة المتجولون في المَحَطّات. 2. الطَّناطِل جَمْعُ طَنْطَل وهو كائن خرافي، إلى درجة ما، يَسْكنُ في الأماكن المَهْجورة، يسحرُ الناس ويُضِلّهم عن طريقهم أو يُلْهِيهُم عمّا هم عَلَيْه. ويطلق تعبير الطّنْطَل أيْضاً على الحائر في حياته لا يَعرفُ ماذا يفعل. 3. يُدْعى البَطّيخ الأحمر في العراق بالرَّقِّي، ومفردته رَقِّيَّة. * كاتب عراقي مقيم في نيويورك