{ أوضح الروائي الجزائري سعيد خطيبي أن مسمى «رواية مغاربية» نشأ وتطوّر في الخمسينات ثم في الستينات من القرن الماضي، وأنه كان يعبّر عن حساسية معيّنة عن كتابات مشتركة، في الجزائر والمغرب وتونس، اتّفقت في الالتزام بالخيار القومي، في مواجهة الاستعمار، لكن بعد استقلال الدول المغاربية، امّحى شرط الرّواية المغاربية، فتعددت الرواية المغاربية ولم تعد واحدة. وقال خطيبي في حوار مع «الحياة» إن الكاتب العربي لا يزال يعيش في «منفاه»، في حدود رسمها له المجتمع، وأن الكاتب تواطأ معه في تكريسها. وبخصوص روايته «أربعون عاماً في انتظار إيزابيل»، قال إن الرواية ليست إيبرهارت وحدها، إنما أيضاً عن أولئك الشّهود الأجانب، الذين خارج الحيز الجزائري، اندمجوا فيه، كتبوا عنه، وأرَّخوا له من منظور محايد.إلى نص الحوار: القراءة محطة البداية لكل كاتب، هل يمكن أن تكون القراءة هروباً من الجغرافية نحو محطة جديدة لا تعترف بالحدود والزمان؟ - من كثرة القراءة، يُمكن أن نهدم الجغرافيا التي تنتصب أمام أعيننا، ونبني جغرافيا أخرى جديدة، قد لا نرى وجوداً لها في الواقع، لكنها تسكن مخيّلتنا، تتحرّك في داواخلنا. القراءة هي لحظة تيه، وهي أيضاً منطقة وسطى، زاوية انتظار أن يحصل تحوّل ما، هو تحوّل يختلف من قارئ إلى آخر. في الغالب، من السّهل أن نقرأ، لكن من الصّعب أن نعيش «القراءة»، أن نجعل منها «طقساً» نطهر فيه أنفسنا أو نعيد اكتشافها. العالم العربي عرف تحولات وتعقيدات أصبحنا نعيشها، هل الكاتب اليوم مؤثث لمخاطبة قارئ ضمن نسق معين؟ - الكاتب العربي لا يزال يعيش في «منفاه»، في حدود رسمها له المجتمع، وتواطأ الكاتب معه في تكريسها. الكاتب العربي لم يتخلّ عن دوره، ولا عن مسؤوليته، في مخاطبة القارئ، في البحث عنه، في التقرّب منه، لكن هذا لا يعني أنه توصّل إلى غايته. الكاتب يجد نفسه في الصفّ، كملاحظ، للتحوّلات التي تعيشها المنطقة العربية، لكن، غالباً في الصفّ الأخير في التّأثير في التحوّلات، وفي صناعة الحدث. هل تمكنت الرواية المغاربية من مراكمة الثيمات والأسئلة التي يزخر بها المغرب العربي، ومن ثمة مواجهة بعض جوانب رموز التطور المجتمعي؟ - لست أعرف إن كان من الممكن طرح مصطلح «رواية مغاربية»، في القرن الواحد والعشرين. هذا المصطلح، الذي نشأ وتطوّر، في الخمسينات ثم في الستينات، من القرن الماضي، كان يعبّر عن حساسية معيّنة، عن كتابات مشتركة، في الجزائر والمغرب وتونس، اتّفقت في الالتزام بالخيار القومي، في مواجهة الاستعمار أسماء آلبير ميمي في تونس، مولود فرعون ومحمد ديب وكاتب ياسين في الجزائر، إدرايس شرايبي ومحمد خير الدّين في المغرب، كانت تكتب في الخطّ نفسه تقريباً. بعد استقلال الدّول المغاربية، امّحى شرط الرّواية المغاربية، بالأحرى أن الرّواية المغاربية تعدّدت، ولم تعد واحدة. وفي هذا التعدّد كانت الرّغبة في مقاربة الهواجس الجديدة للمجتمعات التي تعيش فيها. لكنْ هناك عامل آخر طرأ، ولم يسمح لها ببلوغ مبتغاها، هو غياب الحرية، المشترك الآن بين الحساسيات الرّوائية، في دول المغرب العربي، أن تفتقد فعلاً الحرية، وتتحيّل عليها، كي لا تسقط في الرّقابة أو في المحاكمات الأخلاقية. هل غياب النصوص الجزائرية عن الجوائز دليل على ضعف تيمة تلك النصوص؟ - لا بدّ أن نتفق أن الجوائز الأدبية هي ظاهرة جديدة، في العالم العربي، هي ظاهرة صحيّة – بطبيعة الحال –، لكن، لست أظنّ أنها المقياس الأوحد للحكم على جودة نصّ، وليس من المنصف التّقليل من قيمة أدب بلد معيّن بحكم أن كتّابه لم يحصلوا على جوائز أدبية! هناك كتّاب كثر، في العالم، كسبوا ثقة القارئ، ولم يحصلوا على جائزة واحدة في حياتهم! الرّواية، في الجزائر، تعيش تطوّرها الطبيعي، كما ينبغي لها، هي رواية على صلة بما يدور في البلد من تغيّرات، تتخذ مسافة من السّلطة، وتصطف إلى جانب القارئ. من جهة لا يمكن أن ننتظر عدداً كبيراً يأتون من بلد بحجم قارة مثل الجزائر. بالمقابل، هناك علامات لا تخطئها العين، تقدّم صورة إيجابية للرواية الجزائرية، لقارئ غير جزائري. دخلت في حوار مع التاريخ، في نص سردي لحياة إيزابيل إيبرهارت التي عاشت في صحراء الجزائر. هل هذا النص جاء ذكرى لحياة إيبرهارت وموقفاً من التاريخ؟ - رواية «أربعون عاماً في انتظار إيزابيل» ليست رواية عن إيزابيل إيبرهارت وحدها، لأنه لا توجد إيبرهارت واحدة، بل أكثر من واحدة، هم أولئك الشّهود الأجانب، الذين خارج الحيز الجزائري، اندمجوا فيه، كتبوا عنه، وأرّخوا له من منظور محايد. كتابة التّاريخ في الجزائر لم تكن يوماً مهمّة سهلة، إنها معركة لم تنته. جزء كبير من تاريخ البلد لم يكتب أو كتب من جهة واحدة، هنا تكمن أهمية الأديب، الذي يمنح نفسه حريات لا يمتلكها المؤرخ نفسه، ويساهم في كتابة ما ضاع من تاريخ شعب، هذا ما فعلته إيبرهارت وشبيهاتها في الجزائر وفي المغرب وتونس أيضاً. وعي الكاتب في هامش اللاوعي، يجعله يلامس ما يكوّن عناصر معرفية تمكنه من مراجعة التاريخ وتصحيح ملابساته، فهل هذا الوعي أثمر «أربعون عاماً في انتظار إيزابيل» في قراءة جديدة لتاريخها؟ - هي ليست قراءة جديدة للتّاريخ، بل تصحيح ما وقع من أخطاء تغاضينا عنها أو سهونا عنها، بعد استقلال البلد. التّاريخ لا يحتمل سوى قراءة واحدة، وهي القراءة المغيّبة عموماً، التّاريخ ليس أن يكتبه المنتصرون، بل أن يتقبله المغلوبون، كلما وضعنا التاريخ على طاولة كلّما اقتربنا من الحقيقة ومن الكتابة الصّحيحة له. هل يمكن أن نقول إن جنائن الشرق تتوفر على بعد ذاتي «سيرة ذاتية مغلفة» مع رصد لرحلاتك وواقع لبعض دول الصقالبة؟ - بالتّأكيد، الذّاتية حاضرة. كلّ نصّ أدبي – مهما كان – ينطلق من تجربة ذاتية. لكنها ذاتية من منظور الآخر، لسنا نتحدّث عن أنفسنا كما نراها، بل كما يرانا الآخر، هي حوارية، لا تبتغي الدّفاع عن طرف ضد طرف، بقدر ما تحاول أن تتحاور معه، لفهم أنفسنا أولاً، ثم فهم الآخر، المختلف عنّا. قلت عن جنائن الشرق الملتهبة إن «السّفر لا يقاس فقط بالمسافات، وإنّما أيضاً بالحالات النّفسية التي يستشعرها الفرد».. هل انعكست تلك الحال النفسية على مفاصل النص؟ - نعم، ففي كلّ مرحلة من كتابة فصول الكتاب، كنت أجد نفسي أعود إلى أمكنة عرفتها وعشت فيها في السّابق. هكذا، كان السّفر يعيدنا إلى أنفسنا، إلى أحاسيس عرفناها من قبل، إلى مشاعر اختبرناها. السّفر لا يعلّمنا شيئاً جديداً، بقدر ما يذكرّنا بأنفسنا، ويحيلنا لتذكّر تجارب عرفناها في ما مضى. كأنك وأنت تذكر الفن واللوحات تشير إلى تكسير ومحو التاريخ المتأصل في الشرق من قبل جماعات متخلفة، لكن أليس التاريخ يكتبه المنتصر وهو في حد ذاته تاريخ مزيف أو لنقل ليس كامل النقاء؟! - خطورة التّاريخ لا تكمن في أن طرفاً يفرضه على الآخر، بل في قابلية الطّرف الأضعف لتقبله من دون مساءلة. ثم إن التّاريخ لا يكتب في لحظة معينة، بل هي كتابة مستمرة، هي كتابة ومحو وتدقيق ونقد، الحقائق ليست سلعة جاهزة، إنها صناعة وميراث، ومسؤولية تتداولها أجيال في ما بينها. لهذا لا أظن بوجود تاريخ نقيّ أو مزيف، بل يوجد تاريخ وفقط ينتظر من يكتبه. يبدو أن الشك يلاحق المرء مهما بذل من جهد في حبه للمكان أو الناس؛ هل الشك حال صحية أم مرض لا يعوّل عليه كثيراً إلا في حالة الحرب، برأيك من يضفي الصدق على حياتنا، الفعل الخير أم الظنون الظرفية؟ - كلّما ازدادت شكوكنا تجاه أمر ما ازداد – من الطّبيعي – فهمنا. الشّك هو آلة مولّدة للأفكار. الحقيقة تسكن الشكّ، وأتّفق مع الرّأي أنّه كلّما اتسعت شكوكنا زاد تسامحنا. لهذا الشّك حال صحيّة، هو طريق لإدراك ما غاب عنّا.