معركة كسر العظم بين بولندا التي يحكمها الحزب القومي المتشدد (القانون والعدالة) والاتحاد الأوروبي تتجلى ليس فقط في تمردها على قبول حصتها من اللاجئين في إطار سياسة التضامن الأوروبي، وإنما أيضاً في معارضتها بنود خريطة طريق بروكسيل في شأن الاتحاد بسرعات متفاوته والعملة الوطنية أو في شأن بعض سياساتها الداخلية التي تعتقد بروكسيل أن على بولندا أن تعيد النظر فيها لمخالفتها القواعد الأساسية للقيم الأوروبية وفي مقدمها قوانين مكافحة الإرهاب والصحافة والشرطة، وتدخلها الفظ في المحكمة الدستورية وعمل الأجهزة الأمنية ومحاولة تحويلها الى أداة ضد أحزاب المعارضة. رئيسة الوزراء بيتا شيدلو أعلنت تمسك بلادها بالعملة الوطنية، وذلك قبل انعقاد القمة الأوروبية التي تناقش استراتيجية اتحاد أوروبي بسرعات متفاوتة، الذي يستند في جوهرة إلى العملة الموحدة. وقال رئيس الحزب الحاكم ياروسلاف كاتشينسكي «الشعب انتخبني ومنحني التفويض الكامل بانتهاج سياسات تخدم مصالح الدولة والمجتمع، ولهذا فسأدير البلاد كما أريد وبما يتلائم مع مصالحنا الوطنية». وقال في معرض تعليقه على زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وارسو «إن خصوم بولندا الأوروبيين أكلوا الحصرم، فزيارة ترامب هي نجاحنا الجديد، هم يحسدوننا، لذلك يهاجمنا البريطانيون». كما لا تخفي وارسو خصومتها مع فرنسا حليفة المستشارة الألمانية أنغيلا مركل في مشروع تجديد أوروبا وإغناء الديموقراطية الليبرالية، إذ قال وزير الخارجية للشؤون الأوروبية كونراد شيتمانسكي «إن رئيسة حكومتنا كانت واضحة في طلبها التخلي عما سماه (الشعارات الجاهزة) التي تعتبر أحياناً مهينة، وإظهار المزيد من الثقة والمزيد من الحذر في اختيار الكلمات»، في إشارة الى المقابلة التي أجرتها ثماني صحف فرنسية مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي هاجم فيها الدول التي تعتبر الاتحاد الأوروبي متجراً كبيراً»، في اشارة الى دول وسط أوروبا وفي مقدمها بولندا وهنغاريا. اتحاد بسرعات متفاوتة ترى وارسو أن على أوروبا أن تكون اليوم واحدة وغير قابلة للتجزئة وقوية بقوة الدول الأعضاء ذات السيادة، بالتالي فإن الكلام عن اتحاد أوروبي بسرعات متفاوتة لن يؤدي سوى الى خلق الانقسامات المصطنعة، وتقويض مجالات التعاون بدلاً من توطيده وتطويره. وكانت دول غربية عدة منها ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا أعلنت أنها تفضل اتحاداً أوروبياً بسرعات متفاوتة يستند إلى الدول الأعضاء في منطقة اليورو بهدف تحقيق اندماج أكبر». وتخشى بولندا ومعها حكومات أخرى في أوروبا الوسطى والشرقية من أن تصبح أعضاء من الدرجة الثانية في الاتحاد مثل مجموعة فيشيغراد التي عبرت عن معارضتها الشديدة لسياسة الهجرة التي تنتهجها زعامة بروكسيل وتفرضها على الدول الأعضاء. وللمرة التالية صوتت الكتل البرلمانية الخمس في البرلمان الأوروبي على مشروع قرار ينتقد بحدة تدخل السلطة في وارسو في عمل المحكمة الدستورية، وأعربت عن تحفظاتها على القوانين الجديدة التي مررها البرلمان والخاصة بمكافحة الإرهاب والصحافة والشرطة. يقول الخبير في الشؤون البولندية بارتوش دودك «إن الحكومة الشعبوية يمكن أن تصبح مشكلة كبيرة لكل الاتحاد الأوروبي». ويرى المحلل الألماني راينهارد فيزير «إنه لمن سخريات القدر أن تقوم حكومة وارسو في شكل غير مباشر او متعمد بخدمة مصالح دولة أجنبية هي روسيا التي تمثل الآن أكبر تهديد جيوستراتيجي على بولندا». تعد بولندا أكبر اقتصاد في أوروبا الوسطى، وهي احدى الدول التسع بين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ال28 التي لم تتبن العملة الأوروبية الموحدة. وتستفيد من مساعدات مالية أوروبية ضخمة، إضافة الى تأييد الغالبية الأكبر من مواطينها للاتحاد الأوروبي. وتشير البيانات الرسمية للمفوضية الأوروبية أن بولندا حصلت في الفترة 2007-2013 على مساعدات وصلت قيمتها الى 81.5 بليون يورو، وما بين 2014- 2020 يصل حجم المساعدات المخصصة لها الى 82.5 بليون يورو. وتضاعف الناتج القومي للفترة بين 2004 و2013 حيث قفز من 234.5 بليون يورو الى 486.6 بليون يورو، فيما وصلت نسبة النمو الاقتصادي الى3.5 في المئة وانخفضت معدلات البطالة الى اقل من 10 في المئة. عودة الروح للاتحاد في أواخر العام 2016 وإثر فوز ترامب بالرئاسة الأميركية وتأييد غالبية البريطانيين ال «بريكزيت»، سادت مشاعر الإحباط والخيبة في المجتمعات الأوروبية وعمت الشكوك بالمشروع الأوروبي ما ادى الى رفع منسوب المخاوف بين الأوروبيين، قادة ومواطنين، من تزايد احتمالات تفكك الاتحاد، ولكن مع هزيمة الشعبويين في انتخابات الرئاسة النمسوية وفي الانتخابات النيابية في هولندا من ثم فوز ماكرون على منافسته وخصمه الشعبوية مارين لوبن، اضافة الى ما تعرضت له رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي وحزب المحافظين من إهانة سياسية في الانتخابات العامة، وحدوث تحسن في المؤشرات الاقتصادية، انتعشت الأمزجة الأوروبية وعادت الآمال مجدداً بإمكانية ومقدرة الاتحاد الأوروبي على تجاوز ازماته العاصفة وتجديد نفسه واستعادة المبادرة على طريق استرداده عافيته والشروع بعمليات تطوير وتغيير جذرية في بنية وتركيبة الاتحاد، والقيام بإصلاحات تفرضها المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية والانعكاسات الهائلة للعولمة على مجريات الأحداث في العالم. يرى الخبير في الشؤون الأوروبية ومدير مركز الاستراتيجيات الليبرالية ايفان كريستيف أن «التفاؤل في أوروبا الغربية يقابله فتور في شرقها، ولكن انسحاب الأوروبيين الشرقيين من الاتحاد - على نحو ما دعاهم الرئيس التشيخي السابق فاكلاف كلاوس - ضئيل،على قدر ما هو احتمال خسارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في انتخابات العام المقبل». إلا ان كثراً في أوروبا الشرقية وفق كريستيف «يتوجسون من المساعي الألمانية – الفرنسية الرامية الى إعادة هيكلة النظام الأوروبي من جديد، فالحكومات في بولندا وهنغاريا تخشى أن يهدد تعزيز الاندماج السياسي الأوروبي انظمتها غير الليبرالية». الأجور المتدنية وهجرة الشباب ومع أن استطلاعات الرأي في الأشهر الاخيرة تشير الى أن عدداً متزايداً من الأوروبيين يراهنون على الاتحاد الأوروبي. غير أنه ووفقاً لمعطيات استطلاع للرأي أجراه مركز بيو الأميركي ونشرته صحيفة «واشنطن بوست» فإن غالبية الأوروبيين يريدون الآن حقوقاً ودوراً أكبر عند اتخاذ القرارات في ما يتعلق باللاجئين والمهاجرين، فلقد قال 80 في المئة من الهنغاريين أن حكومتهم هي التي يجب أن تقرر باستقلالية كاملة أي نوع من المهاجرين سيدخل البلاد، واتفق مع هذا الرأي ما يقارب 77 في المئة من البولنديين و75 في المئة من الفرنسيين وثلاثة أرباع الألمان، وهو ما أكده ايضاً الايطاليون والاسبان واليونانيون والبلغار، ووفق الاستطلاع فإن الغالبية من مواطني الاتحاد يريدون أن تتمتع حكومات بلدانهم بقدر أكبر من الرقابة على واحدة من أهم الأسس التي قام عليها الاتحاد وهي الانتقال الحر لمواطني الاتحاد عبر الحدود الأوروبية. وتشير بيانات المفوضية الأوروبية الى أن مليون و400 ألف مواطن أوروبي هاجروا من دولة عضو الى اخرى للإقامة والعمل». ويرى الخبراء انه في بعض دول أوروبا الوسطى غادر أكثر من 10 في المئة من السكان للعمل في غرب أوروبا. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تخسر دول أوروبا الوسطى والشرقية والجنوب شرقية نحو 9 في المئة من ناتجها القومي بين 2015 و2030 اذا ما بقيت هذه المعدلات من هروب السكان. يقول كريستيف «إن قسماً كبيراً من نخب أوروبا الشرقية السياسية تنظر بعين الريبة الى سياسات ماكرون، ويرى بعضها أن سياسات الرواتب المتدنية هي أبرز أسباب مغادرة الشباب لدولهم». ولا يخفي سياسيون في أوروبا الشرقية مخاوفهم من الأخطار الاستراتيجية المترتبة على انقسام أوروبا الى مرتبتين او مستويين». ويتضح من الاستطلاع نفسه «أن عدداً متزايداً من الأوروبيين يصرون على ان تتاح لحكوماتهم إمكانية فرض الرقابة على حدودها». يقول البروفسور في جامعة ميشغان جوشوا كول «في حال تخلى الاتحاد الأوروبي عن هذا المبدأ فأنه يقوض الأسس التي قام عليها ويوجه ضربة قاصمة للقيم الأوروبية». تتجدد بين فترة وأخرى حركات الاحتجاج الشعبية ضد الحكومة رافعة شعارات تدافع عن مكانة بولندا داخل الاتحاد الأوروبي ورفض سياسات حزب العدالة والقانون اليميني المتشدد التي يعتبرونها تهدد الديموقراطية في البلاد، ووفق رئيس معهد الشؤون العامة في وارسو جاسيك كوتشاركيك «يتجلى الخطر الأمني او الجيوسياسي، في أننا سنصبح مرة أخرى ما بين أوروبا الحقيقية والإمبروطورية الروسية، وسنجد أنفسنا مرة أخرى، في موقف كنا هربنا منه خلال العقود الثلاثة منذ سقوط الشيوعية».