يتخذ الدكتور محمد القاضي في بحث قدّمه أخيراً عن ظاهرة الرواية «السيرذاتية» أو الرواية السيرية، من روايتين سعوديتين ظهرتا في وقت واحد، اختارت كل منهما أن تبسط بطريقتها على ذات المبدع غشاءً سميكاً، وأن تجوس مناطق من المعنى موغلة في المعاناة والحيرة والإحباط. أولى الروايتين «سوق الحميدية» للدكتور سلطان القحطاني (صادرة سنة 2008) والأخرى «كيف تصنع يداً؟» لعبد الواحد الأنصاري (صادرة سنة 2009). ويستعرض في قسمين من البحث أدلته على مؤشر الذات في الروايتين، وكذلك الأدوات التي استخدمها كل كاتب لتبعيد القارئ عن معرفة ذلك. ففي الرواية الأولى «سوق الحميدية» التي تجيء بضمير المتكلم يحاول القحطاني من خلال قصص صغرى وشخصيات ثانوية مداراة ذاتية الرواية، إلا أنه يكشف نفسه مندرجاً في الحكاية، ووسيلة الربط الوحيدة بين شخصياتها. ما يجعل سمة شخصية روايته الرئيسية الخيط الواصل بين تلك القصص الصغرى ومنطلق القص ومحوره، مشيراً إلى أن ذلك من أهم خصائص الكتابة السيرذاتية. ويسرد القاضي إضافة إلى ذلك أدلة أخرى تتمثل في تراخي حبل التخييل، وارتفاع وتيرة الخطاب المرجعي، والكتابة بالذاكرة، وطغيان العالم الباطني للشخصية الرئيسية واسترسالها في الذكريات، حتى يبلغ بالمؤلف الأمر إلى إحداث نوع من التواطؤ بينه وبين الشخصيات التي يصبح دورها أن تهيئ له سبيل التذكر. ويضيف أن الرواية الثانية للأنصاري تشفّ عن السمة نفسها، وإن كانت تتوسل الكثير من المراوغة والمداورة. فهي تطالعنا براو غير البطل، وهذا الراوي لا يتردد في ذكر صفته كاتباً، وقارئاً أيضاً، مؤكداً وجود ملاحظات في الرواية تضع المؤلف الراوي في موقع مميز من البطل، ما لا يدع أمامنا مجالاً لأن نقرأها خارج الإطار السيرذاتي. متابعاً أن الأنصاري ليس مجرد راو خارج عن الحكاية وإنما هو راو مندرج في العالم التخييلي يضطلع فيه بدور الشاهد والمشارك في الأحداث. ويتابع: إضافة لهذا فإننا لا نعدم إشارات أخرى منها تطابق زمن الرواية وزمن مغامرة بطلها. وفي قسم آخر من البحث يعرض القاضي الطرائق التي استخدمها القحطاني و الأنصاري حتى يوهمان بأن البطل في روايتيهما هو شخص آخر غير المؤلف، أولى علاماتها إسناد كل منهما إلى بطل روايته اسماً مخالفاً لاسم المؤلف الحقيقي. فبطل «سوق الحميدية» اسمه «غريب» الذي لم يكن اختياره اعتباطياً، إنما مبرراً بوضع الشخصية الاجتماعي والفكري، إضافة لإسقاطه الأسماء الأخرى. ويضيف: أما الأنصاري فله في إحداث التبعيد طريقة مخصوصة مدارها على المقابلة بين الواقع الواقعي والواقع الروائي، ففي روايته يتخذ اسم الشخصية «حسين» ذو الأصول الأمازيغية، وينسب لنفسه مهنة الكتابة، كي ينمي بطله إلى قطاع بعيد كل البعد عن الكتابة والأدب والثقافة، لكنه على رغم ذلك يزج به في إحداثيات العالم المتعين حين يريد أن يوهم بأنه كائن اجتماعي مفارق للراوي المؤلف. ويوجز نحن أمام وضع مريب، فالأنا في الروايتين تتلبس ذاتاً أخرى هي جزء منها ولكنها مختلفة عنها، فيكون جوهر الإبداع في هذا الجنس قائماً على مراوحة بين قطبين متقابلين: المطابقة والمفارقة. مشيراً إلى أنه حين يوغل الكاتب في المطابقة يصطنع حيلة ليوهم القارئ بالمفارقة، وعلى العكس حين يحس باطمئنان القارئ إلى فخ المفارقة يفتح الحواجز ويزج به في خضم المطابقة. ويؤكد القاضي أن الروايتين تتقابلان وتتضادان بين الذات والآخر. إذ إن التماثل في صعيد واحد، لا يمنع من وجود اختلاف يبلغ حد أن نرى كل منهما رداً على الأخرى. ف «سوق الحميدية» هي رواية القلق والغربة والرفض التي يجسدها البطل غريب حين يعود إلى مرابع طفولته وصباه بعد غياب دام 25 عاماً. فيما «كيف تصنع يداً؟» رواية رجل في العقد الثالث من عمره يعيش أزمة نفسية ساحقة، في مراوحة بين دفق الذكريات القريبة والبعيدة، الخاصة والعامة. ويتابع: تقدّم الروايتان أنموذجين في الكتابة ورؤيتين للعالم. إذ يجعل القحطاني بطله مكتمل التجربة ولكنه ينوء تحت وطأة خيبة مريرة، يشده الحنين إلى الماضي الذي امحت معالمه. فيما ليس من هم للأنصاري سوى أن يستعيد الماضي من مخالب النسيان، من خلال ذات في مقتبل العمر تفقد يدها ثم تستردها، ولكنها لا تستردها إلا وقد غادرت عالم الأحياء. ويضيف: نجد في رواية القحطاني صورة منفرة للآخر يحمّله مسؤولية ما صارت إليه الأمور في بلده. وتصور «سوق الحميدية» مهزلة من يعيش في وطنه ولا يتحكم في مقدّراته. وعلى الضفة الأخرى تطالعنا رواية الأنصاري بمأساة الآخر الفاجعة، الآخر الذي لا وطن له: فوطنه الذي في الذاكرة لا يعرفه ووطنه الذي في العين لا يعترف به.