غاب الإسلاميون عن التأثير في مجريات الثورة التونسية منذ انفجرت شرارتها الأولى من جسد المواطن محمد بوعزيزي في مدينة سيدي أبوزيد في كانون الأول (ديسمبر)، واستمرت لتطيح نظام بن علي وتضطره للهرب خارج البلاد في 14 كانون الثاني (يناير) الحالي، ولكن رغم ذلك وقبل العودة المنتظرة لقادتها من المهجر الغربي، تثور فزاعة الإسلاميين، وتشبه عودة الغنوشي بعودة الخميني لإيران بعد سقوط نظام الشاه، وهو ما يحتاج مناقشة موضوعية لا تهون ولا تهول من حجم وتأثير إسلاميي تونس، أو من قيادة الشيخ الغنوشي العائد لوطنه وهو في التاسعة والستين محتفظاً بعلاقة طيبة مع قوى التغيير الديموقراطي والحقوقي فيها من دون أن يكون له أن يدعي أنه وراءها أو محركاً رئيساً لتوجهاتها. الميل الى وصف عودة الغنوشي على هذا النحو لا يخلو من مبالغة في حجم إسلاميي تونس الذين تكرر غيابهم عن العديد من الاحتجاجات التونسية في السابق، سواء في عهد الحبيب بورقيبة أو في عهد زين العابدين بن علي، فلم يكن لهم دور أو تأثير في كثير منها مثل انتفاضة الخبز سنة 1984، أو أحداث الخميس الأسود في 1978، وقبل الثورة الحالية بقليل كانت أحداث الحوض المنجمي سنة 2008، وهو ما يعني زخم تونس بالعديد من النخب والقوى الفاعلة دون الإسلاميين أو بجوارهم، ويحررنا من هذه الفزاعة التي طالما استخدمها نظام بن علي حتى قبل سقوطه بسويعات قليلة، لإبقاء الوضع على ما هو عليه. وأقصى ما يمكن أن يكونه إسلاميو تونس، الذين غيبتهم المهاجر وأنهكتهم بالداخل الصراعات مع نظام بن علي، وهمشت وجودهم كثيراً، مع بروز تحدي السلفيين للتأثير في الجماهير المتدينة منذ أواسط التسعينات، هو أن يستأنفوا نشاطهم ويعيدوا بناء وجودهم ليكونوا جزءاً من نظام تعددي وديموقراطي ليس أكثر. وقد تروج هذه الفزاعة مع ما أصدرته هذه الحكومة في أول اجتماعاتها يوم 20 كانون الثاني من قرار بالعفو العام شمل إسلاميي النهضة، ينتظر عرضه على البرلمان قريباً لإقراره بشكل نهائي، وهو ما نظنه يضخم من صورة الإسلاميين التونسيين، غير ما هم عليه حقيقة سواء ككيان له قواعد اجتماعية هشة أو كتأثير أو ركوب محتمل على ثورة خرجت إرهاصاتها من مخاضات اقتصادية واجتماعية وتوافقية، وليست أيديولوجية بأي شكل كان. بين الوطن والمهجر... حركة منهكة غاب تأثير الإسلاميين مع اشتعال الثورة، بينما صعد تأثير قوى جديدة تمثلها وقوى بديلة مثل الكوادر الوسطى في الاتحادات الجهوية للتشغيل، وبعض قوى اليسار، وبعض المجموعات القومية والإسلامية، ولكن هؤلاء يتحركون ضمن سياقات غير منسقة، وغير أيديولوجية ويتحدون مع مطالب وهموم الشارع التونسي ومشكلاته العامة. ويفسر غياب الإسلاميين بغياب كوادرهم وقادتهم الفاعلين في المهاجر منذ عقود، وخروج عدد من أبرز قادتهم في السابق عن إطار الحركة بقيادة الغنوشي، مختلفين معها بشكل كبير، وانضمام البعض الآخر للأحزاب القائمة منقلباً على توجهاته السابقة ومقتنعاً بالتوجهات الجديدة، ولكن يلاحظ أنه رغم كل ذلك فقد حملت النخبة في تونس درجة قبول كبيرة وإمكانية دائمة للتعاون مع الإسلاميين وكفالة حقوقهم في التعبير والممارسة السياسية، بما فيها قوى اليسار والشيوعيين، وبخاصة المنظمات الحقوقية، التي تعتبر التعددية واستيعاب الجميع ثابتاً رئيساً في عملها الوطني، من دون احتكار أو إقصاء. وقد كان القضاء على الرابطة التونسية لحقوق الإنسان سنة 1989 ناتجاً من مساندتها ودفاعها عن عناصر النهضة في صراعها مع نظام بن علي بعد الانتخابات البرلمانية سنة 1987، والتي شاركت فيها حركة «النهضة» الإسلامية وحصلت على حوالى 20 في المئة من الأصوات بحسب اعتراف السلطة. وثمن الكثير من المتابعين لها عدم اللجوء للعنف في مواجهة الممارسات العنيفة التي مارسها النظام ضدها، في أوائل التسعينات التي شهدت كذلك فرزاً بين المعتدل والعنيف من الحركات الإسلامية بطول العالم العربي والإسلامي. الاندماج لا الوصاية والهوية لا المرجعية يدرك إسلاميو تونس موقعهم وحجمهم في السياقات الجديدة، فقد أنهكهم الصراع الطويل مع نظام بن علي، وأكد الغنوشي على هذا الوعي والإدراك عبر ترحيبه وانتعاشه - شأن كل معارضي المهجر - بنجاحاتها، وسعيه للتماهي معها ومع أهدافها من دون أهداف خاصة، فالحركة المنهكة ليس لها إلا أن تسير في طريق الثوار الأقوياء، في ظل تشتت وتلاشي هياكلها وقواعدها في الداخل بشكل شبه كامل، وقد اعترف الغنوشي بهذا الإنهاك قائلاً:» لقد تم إضعاف كل الأحزاب بسبب الاضطهاد. وتلزمنا خمس أو ست سنوات قبل أن نتمكن من تنظيم انتخابات ديموقراطية». فليس أمام إسلاميي النهضة الآن غير الاندماج في الثورة ومطالبها لا الوصاية عليها، ومحاولة إيجاد مكان وسط قواها الفاعلة والجديدة، التي تؤمن بحق الإسلاميين في التعبير والعمل السياسي السلمي، رغم مخالفتهم لتصورات الأصولية الإسلامية. أما عن التأثير المحتمل للثورة فليس في مستوى المرجعية ولكن في مستوى الهوية التي مثلت إشكالاً دائماً للدولة التونسية بعد الاستقلال، ومزيداً من التأكيد على الهوية العربية الإسلامية، ليس أكثر وليس إقامة دولة دينية. وقد أعلنت النهضة شرطاً واحداً ليس فيه عودة الغنوشي، هو «حل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، وألا تضم الحكومة الانتقالية شخصيات ترمز للنظام القديم.» وطمأنة للخارج والداخل يؤكد الغنوشي على تمثله نموذج العدالة والتنمية وإعجابه به ورفضه وحركته للتغيير العنفي وممارسة الإرهاب باسم الإسلام، حيث يقول: « نحن أقرب إلى حزب العدالة والتنمية التركي. نحن ندافع عن الديمقراطية وعن أوضاع المرأة التونسية. إننا نقود حركة سلمية ومعتدلة.» وأكد على أن أكثر من 400 عضو من حزب النهضة حصلوا على صفة لاجئ في الدول الغربية، و«لم يتم قط التشكيك في أي منهم في علاقته بالإرهاب». ويضيف مزيداً من الطمأنة بالقول: «لا يمكن اليوم لأي حزب أن يدعي بأنه صاحب الأغلبية في تونس، ولا يمكن تسيير البلد إلا بواسطة حكومة ائتلاف.» كما أكد عدد من قيادات الحركة أنها لا تنوي تقديم مرشح للانتخابات الرئاسية المقبلة. ربما يكون هناك العديد من التحفظات النظرية على طروحات النهضة السابقة، ولكن لا شك في أنها الأكثر انفتاحاً من حركات الإسلام السياسي في المنطقة.