وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل يحذر من خطورة الأوضاع في لبنان، ويعلن أن بلاده «رفعت يدها» عن الوساطة التي أجرتها مع سورية لحل الأزمة في لبنان، بعد أن اتصل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز بالرئيس السوري بشار الأسد «رأساً برأس»، إذ كان الموضوع بين الرئيسين هو الالتزام بإنهاء المشكلة اللبنانية برمتها، لكن ذلك لم يحدث. تركيا وقطر تعلنان فشل مسعاهما لحل العقدة بين الفرقاء في لبنان. المبادرة الفرنسية تتوقف. اتفاقا الدوحة والطائف على المحك وربما النعي الأخير. سورية تنجح في تحقيق مآربها السياسية ويحقق حلفاؤها كثيراً من مطالبهم بعد التنازلات الكثيرة التي قدمها سعد الحريري. ميشال عون يتحدى رأي الغالبية، ويكاد يهدد الطائفة السنية على حساب حلفائه في «حزب الله» و «أمل». سعد الحريري تتكاثر أمامه «المطبات» التي يفتعلها معارضوه حتى نجحوا في إسقاط حكومته «المنتخبة». فيما يبقى الهمُّ الأول والأخير ل «حزب الله»، انصياع الحريري لإرادته ورغباته وإلغاء المحكمة الدولية. لكن الأهم أن الحريري لم يخشَ التحديات، ويصرُّ على الاستمرار في الترشح لرئاسة الحكومة المقبلة مع الاستمرار في المحكمة الدولية المشكَّلة للتحقيق في اغتيال والده ورفاقه، وهو ما يجب ألا يقبل المساومة فيه، فالتنازلات الزائدة واللغة الناعمة لم تجلب له إلا الضعف والتفكك في جسم تياره. إن كان «حزب الله» يثق في سلامة موقفه وبراءة عناصره فلماذا يخشى المحكمة الدولية ويستمر في المطالبة بإجهاضها ويلوّح بالشارع لكسر ظهر بلاده؟! لكن هل ساعدت تصريحات وزير الخارجية السعودي النائبَ الدرزي وليد جنبلاط في التخندق في خط سورية والمعارضة ضد حلفائه سابقاً في 14 آذار بدلاً من أن يكون مستقلاً؟! على ما يبدو أن تصريحات الفيصل كانت خيطاً ينتظره جنبلاط ليعلن وقوفه إلى جانب المعارضة على رغم أنه منذ أكثر من عام يغازل «حزب الله»، ويفضل السكن في خنادق الحزب والانصياع لتوجيهات وأوامر قياداته كما هي حال ميشال عون. يعرف غالب السياسيين أنه لا يمكن الاعتماد على جنبلاط، فهو زعيم «متناقض المواقف»، يدحرج طائفته من تلة إلى تلة ومن منحدر إلى منحدر. ويتنقل وفق «المزاج» لا وفق المبادئ السياسية. اليوم، يدخل لبنان مرة أخرى إلى «مصير مجهول»، إذ أعاد «زعماء الحروب» و «تجار الأزمات» البلاد لتكون مسرحاً للصراعات الطائفية والانقسامات الداخلية. عاد لبنان إلى النفق السياسي المظلم نتيجة الخلاف على المحكمة الخاصة بلبنان. ضاعت الجهود الديبلوماسية العربية التي استهلكت كل طاقتها لتشكيل حكومة الحريري التي أسقطتها المعارضة، باستقالة وزرائها من دون الاكتراث بالاتفاقات. ليلة سقوط الحكومة وصلت إلى بيروت في رحلة خاطفة. حاولت الاستماع إلى آراء الشارع. وجدت الجميع يعبر بامتعاض عمَّا يحدث، وأصبح عامة الناس ناقمين على الساسة الذين يفكرون في مصلحتهم قبل مصلحة الشعب واستقرار البلد. أناس كما يقولون «بَدْهُم يعيشوا» سئموا صراعات السياسة ودوامة الخلافات بسبب تعنّت الأطراف المتطارحة وتباين الأجندات وتغييب مصلحة الوطن. منذ حرب تموز (يوليو) 2006، تكتظ ساحة مطار بيروت بطائرات خاصة لرؤساء ووزراء ووجهاء ووسطاء لحل المشكلة اللبنانية، فما أن تقلعَ طائرة رئيس إلا وتهبط طائرة آخر ولا يغادر وزير إلا ويأتي آخر، رغبة في دفع اللبنانيين إلى التوافق، وبحثاً عن إزالة شبح الحرب بين الطوائف اللبنانية. إلا أنه وعلى رغم الجهود الديبلوماسية الضخمة التي لم توجه نحو أي بلد عربي آخر، يصر زعماء لبنان على أن تكون بلادهم ساحة لتقاطعات كافة الأجندات في المنطقة، ومسرحاً لمختلف الأزمات، وسوقاً لتجار الحروب والقلاقل والفتن. يمكن القول إن فرقاء لبنان يتميزون بقدرتهم الفائقة على إجهاض المبادرات ونقض الاتفاقات، ما يجعل أوضاع البلاد قابلة للانفجار، ولحظة التعارك تنتظر إطلاق الرصاصة الأولى. كتبت في 18 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي مقالة بعنوان «لبنان والنكران»، وطرحت خلالها تساؤلاً عن سر الاهتمام السعودي بلبنان. مشيراً إلى ضرورة توجيه البوصلة السعودية نحو العراق واليمن لكونهما جارين أقرب الى السعودية من لبنان وأهم منه سياسياً واستراتيجياً، والأوضاع فيهما تؤثر فيها المملكة وتتأثر بها. واليوم، أؤيد ما جاء على لسان الأمير سعود الفيصل برفع يد المملكة عن لبنان بل نهائياً، إذ لا يجب أن تهتم الحكومة السعودية بالأوضاع في لبنان أكثر مما تهتم بها في العراق أو اليمن! ويجب أن توجه الطاقات الديبلوماسية والمساعدات الإنسانية إلى الدول المؤثرة والأهم، خصوصاً في ظل عدم صدقية بعض اللبنانيين والنكران السريع للجهود السعودية المتواصلة الرامية إلى إحلال الوئام والسلام على أرضه منذ الحرب الأهلية. ما زلت أعتقد أنه آن الأوان لكي يترك العرب والغرب لبنان ليواجه مصيره بنفسه بعد أن تسبب بعض زعمائه في إفشال كل الجهود الديبلوماسية، واستهلكت الطاقات بلا اكتراث، ليشعر هؤلاء أن لبنان ليس إلا دولة صغيرة على خريطة عالمية كبيرة، وليست نهاية العالم ما هم عليه مختلفون.