منذ ثلاثة أشهر تترنّح فنزويلا على شفا حرب أهلية غير معلنة، بعد مواجهات دامية بين مؤيّدي المعارضة وقوات النظام أوقعت عشرات القتلى ومئات الجرحى، فيما تشتدّ أزمة تموينية حادة تشمل أغذية أساسية وأدوية، مهددةً بأزمة صحية واجتماعية خطرة في واحدة من أبرز الدول المصدّرة للنفط، والتي تعوم على أضخم مخزون للبترول في العالم. ويُستدلّ من التصعيد الأخير، والذي بدأ بقرارات اتخذتها الحكومة لإبطال مفاعيل نتائج الانتخابات النيابية التي فازت فيها المعارضة بغالبية ساحقة، واتساع رقعة الاحتجاجات الشعبية وتسارع وتيرتها، إضافة إلى عجز «منظمة الدول الأميركية» عن اتخاذ موقف موحّد من الأزمة، في ظل انكفاء واضح ومربك من واشنطن، أن كل السيناريوات باتت واردة، بما فيها الانزلاق إلى وضع يجعل من فنزويلا سورية أميركا اللاتينية. ومنعت المحكمة العليا المدعية العامة لويزا أورتيغا من مغادرة البلاد، وجمّدت حساباتها المصرفية، بعدما اتهمت الرئيس نيكولاس مادورو بإشاعة «إرهاب دولة». لكنها تعهدت «الدفاع عن دستور فنزويلا وديموقراطيتها» ولو كلّفها ذلك «حياتها». وأتى خطف ضابط في الشرطة مروحيةً أطلق منها النار على مبنى المحكمة العليا في العاصمة ضمن ما اعتبرته المعارضة «أشبه بفيلم»، وكذلك ما أعقب ذلك من تصريحات لمادورو قال فيها: «لن نستسلم أبداً، وما عجزنا عنه في صناديق الاقتراع سنحققه بقوة السلاح، الذي به سنحرّر وطننا»، وتحذيره من أن البلاد «ستتجه إلى حرب إذا غرقت في فوضى وعنف»، ليُطلق بذلك صفّارات إنذار في عواصم أميركا اللاتينية، التي باتت تعتبر الأزمة الفنزويلية أخطر التحديات التي تهدد أمن المنطقة واستقرارها. وترى هذه العواصم أن الارتفاع الخطر الذي تشهده فنزويلا في مستويات الفقر وسوء التغذية وانهيار المنظومة الصحية وتفشّي البطالة والعنف، إلى جانب نزوع النظام نحو مزيد من التشدد ولجوئه المتزايد إلى المجموعات شبه العسكرية لقمع الاحتجاجات، من شأنه أن يؤدي إلى انهيار البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويهدد بانفجار واسع لن تسلم البلدان المجاورة من تداعياته. ويتوقف مراقبون عند الموقف المنكفئ للولايات المتحدة من الأزمة الفنزويلية في الفترة الأخيرة، مقارنة بمواقفها التصعيدية على جبهات أخرى، خصوصاً كوبا. وأدّى غياب وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون عن الاجتماع الأخير الذي عقدته «منظمة الدول الأميركية» التي تدور في فلك واشنطن، إلى إرباك الدول الكبرى في المنطقة، التي اختارت للمرة الأولى ممارسة ضغط مباشر على نظام مادورو ورفض دعوته إلى عقد جمعية تأسيسية ومطالبته بتنظيم الانتخابات النيابية في موعدها العام المقبل. وأدّى هذا الانكفاء الأميركي إلى إسقاط مشروع قرار قدّمته المكسيك والأرجنتين والبرازيل والبيرو، بفعل ضغوط مارستها كوبا -على رغم غيابها عن الاجتماع- على «الدول الجزر» الصغيرة في الكاريبي حيث تتمتع بنفوذ واسع، بفضل سياسة «التعاون» التي انتهجتها منذ عقود، إذ أرسلت آلافاً من الأطباء والمعلّمين والمدرّبين الرياضيين والعسكريين، وعملاء الاستخبارات لمساعدة تلك البلدان، يُضاف إلى ذلك أن المكسيك وكولومبيا والبرازيل والإكوادور والأرجنتين حرصت أخيراً، لأسباب مختلفة، على تحاشي المواجهة مع كوبا وعدم عزلها إقليمياً. وكان لافتاً أن العملاق المالي الأميركي «غولدمان ساكس» اشترى الأسبوع الماضي سندات من شركة النفط الفنزويلية بثلث قيمتها، نظراً إلى حاجة ماسّة لحكومة مادورو إلى سيولة نقدية. وأوردت صحيفة «وول ستريت جورنال» أن فنزويلا، التي بمقدورها أن تستمر باستخراج البترول من مخزونها الهائل لفترة تزيد على 300 سنة بالوتيرة الحالية، اضطرت إلى شراء الخام الأميركي الخفيف للمرة الأولى، لمزجه بخامها الثقيل بهدف تصديره إلى الأسواق العالمية. إزاء هذا المشهد الإقليمي المتشابك والمعقّد، تتجه الأنظار مجدداً إلى كوبا، فهي الوحيدة القادرة على إيجاد مخرج من المأساة الفنزويلية المتفجرة، بحكم تأثيرها الكبير على النظام الحاكم في كراكاس منذ عهد الرئيس الراحل هوغو تشافيز. لكن كوبا لن تتبرّع لإيجاد هذا المخرج من دون مقابل، والولايات المتحدة هي الوحيدة القادرة على إعطائه.