يوم 4 شباط (فبراير) 1942 اقتحمت دبابات بريطانية باحة قصر عابدين في القاهرة وفرضت زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس باشا رئيساً للوزراء ضد إرادة الملك فاروق. دعا النحاس باشا إلى انتخابات جديدة للبرلمان، وترشح لها الشيخ حسن البنا زعيم «جماعة الإخوان المسلمين». وعندما ساومه النحاس على سحب ترشيحه طلب مقابل ذلك غض النظر الحكومي عن نشاط «الإخوان». وهكذا، خلال أربع سنوات لاحقة نمت الجماعة اجتماعياً في شكل جعل محاولات نزع زرعها التنظيمي من التربة المصرية أعوام 1949 و1954 و1965 و2013 تفشل بسبب ما بنته في تلك السنوات الأربع. أعطى هذا صورة عن نموذج التحالفات عند البنا: مقايضة السياسة لمصلحة التنظيم، ولم يتردد في تأييد حكومة كانت منبوذة من الرأي العام المصري بعد صعودها على ظهر الدبابات البريطانية، وهو كان سابقاً لهنري كيسنجر في مبدأ: «لاصداقات دائمة ولاعداوات دائمة. المصالح هي الدائمة». عام 1946 عاد الصدام بين النحاس والبنا. اغتيل البنا في 12 شباط 1949 على الأرجح كما بينت التحقيقات لاحقاً بأوامر من الملك فاروق في رد على اغتيال الجهاز الخاص في «الإخوان» لرئيس الوزراء المصري محمود النقراشي قبل شهر ونصف الشهر رداً على مرسوم حله للجماعة. ويحتمل أن الملك المصري تشجع كثيراً على ذلك بسبب ما أثاره البنا من هلع في القصور الملكية عندما كان «الإخوان» السند الرئيسي لحزب الأحرار اليمني في عملية اغتيال الإمام يحيى آل حميدالدين في صنعاء يوم 17 شباط 1948 وتنصيب إمام جديد آخر أيضاً من الزيدية من أسرة (آل الوزير) قبل أن يستطيع أحمد بن الإمام يحيى القضاء على الانقلابيين بعد أربعة أسابيع. فقد أعطى ما جرى في صنعاء صورة أبعد عن براغماتية البنا: استخدام آخرين، من مذهب غير سني، للوصول إلى تحكم «الإخوان» بسلطة من وراء الستار في إحدى العواصم العربية (تحولت الجماعة إلى تنظيم دولي يتجاوز النطاق المصري عام 1946). عاش»الإخوان» من دون مرشد عام حتى يوم 19 تشرين الأول (أكتوبر) 1951 مع انتخاب حسن الهضيبي: في كانون الثاني (يناير) 1950 اختارت القيادة الموقتة للجماعة تأييد حزب الوفد في انتخابات البرلمان من دون ترشيح أعضاء منها، وهذا ما ساعدها خلال سنتين من حكومة النحاس باشا على ترميم التنظيم في مرحلة ما بعد اغتيال البنا. وبعد خمسة أيام من انقلاب 22-23 تموز (يوليو) 1952 التقى الهضيبي مع البكباشي جمال عبدالناصر الذي كان يرأس «تنظيم الضباط الأحرار» منذ تأسيسه في تموز 1949، وكان يضم ضباطاً من «الإخوان» ومن حركة «حدتو» الشيوعية، بصفتهم الفردية، مع ضباط من دون أي انتماء حزبي. في ذلك اللقاء اكتشف الهضيبي عدم امكان استخدام عبدالناصر، بينما اكتشف الأخير خطر «الإخوان» على سلطته الجديدة. لتفادي هذا، حاول عبدالناصر شق «الإخوان» أو إطاحة الهضيبي، ولما فشل قام بحملة اعتقالات في تشرين الأول 1954. وحاول الهضيبي التحالف مع الشيوعيين والوفديين واللواء محمد نجيب في أزمة آذار (مارس) 1954 من أجل عودة الحكم المدني الحزبي وإطاحة الحكم العسكري. وبعد إزاحة نجيب كان الصدام بين عبدالناصر و»الاخوان» مسألة وقت. الحرب الباردة استغل «الاخوان» أجواء الحرب الباردة الدولية 1947-1989 التي تحولت إلى حرب باردة عربية منذ نيسان (أبريل) 1957 بين محور القاهرة- دمشق والرياض-عمَان- بيروت حتى مجيء فؤاد شهاب في أيلول(سبتمبر) 1958، بينما كانت منذ شباط 1955 مع قيام حلف بغداد أساساً بين عبدالناصر ونوري السعيد في بغداد. عملياً اصطف «الإخوان» إلى جانب الغرب الأميركي في الصراع مع السوفيات، وكان هذا واضحاً في باكستان حيث تحالف أبو الأعلى المودودي مؤسس «الجماعة الاسلامية» مع الجنرال أيوب خان (1958-1969) ضد الهند حليفة موسكو، وصولاً إلى مصر وسورية حيث وقفت الجماعة في البلدين ضد عبد الناصر وحزب البعث منذ وصوله إلى السلطة عقب انقلاب 8 آذار(مارس) 1963. اختار المودودي مقايضة التأييد السياسي لحكم العسكر الباكستانيين (وهذا استمر مع الجنرال ضياء الحق في انقلابه عام1977 على ذوالفقار علي بوتو ومع خلفاء المودودي بعد وفاته عام 1979) بأخذ مراكز مؤثرة للإسلاميين في الحكم والإدارة وفي مجالات التربية والتعليم وفي السيطرة على المساجد. أما في الأردن فقام «الإخوان»، منذ إقالة الملك حسين حكومة سليمان النابلسي وإفشال محاولة انقلاب علي أبو نوار الموالية للقاهرة في نيسان 1957، بتأييد القصر الملكي وأخذوا حرية الحركة في ميادين التربية والمساجد والعمل الخيري، وقد أدى هذا إلى أن يكونوا الاستثناء الوحيد من قرار حل الأحزاب الصادر آنذاك. وفي انتخابات برلمان 1989 عندما سمح بعودة الأحزاب الأردنية للعمل، كان حصاد «الاخوان» ربع مقاعد البرلمان. ولم يحصل الطلاق مع القصر الملكي الأردني إلا بدءاً من عام 1993، وكان هذا على الأرجح انعكاساً للطلاق الذي جرى بين واشنطن والإسلاميين بعد انتفاء حاجة الأميركيين إلى الاسلاميين بعد انتهاء الحرب الباردة عام 1989 بانتصار واشنطن على موسكو. في أفغانستان ما بعد الغزو السوفياتي في 1979 كان التنظيم العالمي للإخوان المسلمين القوة الكبرى لحشد اسلاميي العالم ضد موسكو، وكانت هزيمة السوفيات هناك التي أعلنت رسمياً في انسحاب 1989 هي الإعلان الرسمي العملي لهزيمة موسكو في مجمل الحرب الباردة العالمية أمام واشنطن. تكررت المعادلة الإخوانية مع الملك حسين في مصر أنور السادات منذ اخراجه سجناء الجماعة وسماحه بحرية العمل لها منذ صيف 1971 بحيث أخذت حرية الحركة بعد ضربات عبدالناصر مقابل تأييد السادات ضد اليسار الناصري بعد ضرب كتلة علي صبري في 15 أيار (مايو) 1971 وضد الشيوعيين بعد طلاقه مع موسكو عام 1974. لكن لم يستمر وفاق السادات مع «الاخوان» بل انهار عام 1978 نتيجة معارضة الجماعة اتفاق كمب ديفيد، وتفاقم هذا مع المعارضة الاخوانية لإيواء السادات عام 1980 لشاه ايران. وكانت النتيجة أن السادات وضع قادة الجماعة في السجن مع الوفديين والشيوعيين عقب اعتقالات أيلول 1981 قبل شهر من اغتياله على يد «الجماعة الاسلامية». ساكن الرئيس حسني مبارك «الاخوان» وساكنوه طوال الثمانينات من دون اعطائهم ترخيصاً رسمياً ما اضطرهم في مجلسي الشعب 1984 و1987 للركوب في باصات أحزاب الأحرار والعمل والوفد لايصال نواب من «الاخوان» فاقت أعدادهم أصحاب الباصات. تصادم «الاخوان» مع مبارك منذ عام 1990 لكنه لم يلجأ حتى يوم سقوطه في 11 شباط 2011 إلى أكثر من الضربات الموضعية للجماعة، واضطر تحت الضغط الأميركي للسماح لهم بدخول انتخابات 2005 لمجلس الشعب حيث نالوا خمس المقاعد. الإخوان في سورية في سورية كانت مسارات «الإخوان» مختلفة وخاصة: صدام مع سلطة حزب البعث أعوام 1964 و1965 و1973 وصولاً إلى مجابهة حزيران (يونيو) 1979- شباط 1982. ولم يمنعهم الدم من الدخول في مفاوضات مباشرة مع السلطة السورية في 1984 و1987 و2009 ومن توسيط نجم الدين أرباكان زعيم حزب الرفاه التركي ورئيس الوزراء 1996-1997 ورجب طيب أردوغان (رئيس الوزراء التركي منذ آذار2003) وخالد مشعل كجسور مصالحة. في كانون الثاني 2009 أعلنوا تعليق نشاطهم المعارض. وعندما فشلت جهود أردوغان انتخبوا في اجتماع لمجلس الشورى لجماعة الاخوان المسلمين في سورية في آب (أغسطس) 2010 قيادة جديدة متشددة من تلاميذ مروان حديد وسعيد حوى من رموز مجابهات «الاخوان» مع السلطة في الستينات والسبعينات: استبدل علي البيانوني بثلاثي حموي (رياض الشقفة- فاروق طيفور- حاتم الطبشي) كان عنواناً لمجابهة ما بعد 18 آذار 2011. كان البيانوني عنواناً لانفتاح الجماعة على السلطة في عهد الرئيس السوري الجديد بشار الأسد منذ 10 حزيران 2000 وكان أقل تشدداً من معارضين مثل رياض الترك، وكان أيضاً عنواناً لانفتاح الاسلاميين على أحزاب المعارضة اليسارية والليبرالية الجديدة، وهو ما تجسد في «اعلان دمشق» ( 16 تشرين الأول 2005) الذي كان مقياساً لانتقال «الاخوان» من المرونة إلى التشدد عند لمسهم ضعف السلطة السورية، كما جرى عقب أزمة لبنان في ربيع 2005، كما كان مثالاً لاستعدادهم لإدارة الظهر لحلفائهم في عملية أشبه بالخيانة الزوجية عندما قاموا من دون علم الحلفاء في «اعلان دمشق» بعقد تحالف جديد مع نائب الرئيس السوري المنشق عبدالحليم خدام في شباط 2006. وعندما شعروا باستعادة السلطة قوتها مع فرص للمصالحة معها عبر الطريق التركي علّقوا النشاط المعارض عام 2009، وعندما فشلت المساعي من أجل ذلك تخلوا عن القفازات الناعمة. وفي مرحلة ما بعد 18 آذار 2011 تزعموا «المجلس الوطني السوري» منذ تكوينه في اسطنبول في تشرين الأول 2011 بغطاء أميركي- تركي- قطري، وجعلوا هذا المجلس واجهة يختبئون وراءها مع أكثرية فعلية عددية لهم من خلال منظمات خلّبية وشخصيات إخوانية تقدم كمستقلة. كان تكتيكهم الوصول إلى السلطة في دمشق عبر هذا المركب، كما حصل في ليبيا عام 2011 مع المجلس الليبي بقيادة مصطفى عبدالجليل ومن خلال سيناريو تدخل عسكري يشكل المجلس غطاءً له. وإثر فشل تلك الحسابات انحنوا أمام عاصفة تغير الموقف الأميركي من «الاخوان» وقبلوا بقيام «الائتلاف الوطني السوري» في 11 تشرين الثاني(نوفمبر) 2012 ولكن على أمل أيضاً بأن يقودوه من الخلف وفي شكل أقل علنية من «المجلس». يقال إنه لما قام سليمان الفرنساوي بقراءة كتاب «الأمير» لمكيافللي لمحمد علي باشا، قال له الأخير العبارات التالية بعد صفحات قليلة: «أغلق الكتاب، أنا أعرف أكثر منه». هنا، ألا يمكن لحسن البنا ومن خلفوه أن يقولوا الشيء نفسه؟ * كاتب سوري