وحدي أتمشى. هادئة الحركة في السوق اليوم. صار الهاجسُ يسرع إليَّ كلما دخلت مجمعاً تجارياً أو سوقاً كبيراً، يأتي إليَّ ليلازمني ويمشي معي، فأبدأ بتفحص الوجوه الباسمة. لا أعرف سبباً كان يبعدني عنهم، فأشيح بوجهي... شابات وشباب ينتشرون في محال بيع العطور والمكياج، أو في ممرات الأسواق والمجمعات التجارية. يرتدون ملابس سوداء مهذّبة، يعترضون بوجوه باسمة مرور العابرين من أمامهم، يمدّون بلطف أياديهم بأوراق بيضاء صغيرة وقد مسَّ شيءٌ من عطرٍ أطرافها. «ممكن». قفزت الكلمةُ عليَّ في مساء ذلك اليوم. بدت نبرة الصوت مألوفة لمسامعي. التفتُّ فتلاقت نظراتنا. شعرتُ بتيار كهربائي يسري بين كتفيّ. أفلتَ لساني: «زياد!» لاح على صفحة وجهه ارتباك، لكنه أسرع يبتسم، بادرني: «العطر جديد». بقيت بانصعاقي. ما عرفت بماذا أردّ... عادت ملامح وجهه لطبيعتها. رشّ بخَّةَ عطرٍ على أطراف ورقة بيضاء صغيرة وقدمها لي: «تفضلي». مددت يدي، أخذتُ الورقة بأصابع حاولتُ إخفاء رجفتها. «أجيء إلى هنا ثلاث ساعات، وفي أيام الإجازات والعطل». قال شارحاً وجوده في السوق. ظل شيءٌ من أملٍ خفيف يحملني للقائه، فأجيء إلى السوق. أرى على البعد فتاة عطر. زياد كان زميلي في الجامعة وفي نادي القراءة. سنتان وأنا أراه في أفضل هيئة، أو هكذا تخيّلته... ما تصوّرت أن وضعه المالي وحاجته... في مرات كثيرة أضمرتُ أفاتحه بإعجابي، لكن خجلي ووجود أكثر من زميلة يَحُمْنَ من حوله منعاني. في مساء ذلك اليوم، ترددت أشتري قنينة عطر منه، اكتفيت بأخذ الورقة البيضاء الصغيرة، وأسرعت اختفي بين المارة. خلافاً لما توقعت، السوق غير مزدحم اليوم... أبطئ بخطواتي، فتستوقفني الفتاة تمدّ يدها بورقة عطرها صوبي وصوتها: «تفضلي». أبتسم لها آخذةً الورقة الصغيرة. أقرّبها من أنفي لأشمها، وأقول بودٍّ: «شكراً» أبتعد بخطواتي. أدسَّ الورقة في حقيبة يدي، ومعها أخبّئ شيئاً من فرح صغير. في ذلك المساء، وما إن ابتعدتُ عن زياد حتى توقفت أنفض عني ما علق بي من رذاذ المفاجأة. هدأتْ أنفاسي. شممتُ الورقة الصغيرة فجاءني منها عطرُ زياد الذي تحفظ روحي. لمتُ نفسي لأنني لم أشتر منه قنينة عطرٍ، وهمستُ أعنّفني: «ستبقين بترددك الكريه». بعد تلك الحادثة، شعرتُ وكأن شيئاً تغيّر في زياد. صار يتحاشى الاقتراب مني، وما عدتُ أنا أجرؤ على النظر في عينيه لأطلعه على خفق قلبي... قصدتُ ذلك المجمع أكثر من مرة علني أعثر عليه، لكني لم... صرتُ أقف أمام أي شابة أو شاب يمدّ يده إليّ. أبتسم له وآخذ منه ورقة صغيرة معطّرة... أجمّع أكبر عددٍ من الأورق في حقيبتي، فيلفح عطرٌ آسر وجهي كلما فتحتها. في إحدى المرات وبينما كنتُ أقرأ رواية، امتدت يدي لأضع ورقة صغيرة معطرة لتدلني على مكان توقفي. راقت الفكرة لي، وصارت الأوراق البيضاء الصغيرة تعطّر قراءاتي. تخرّج زياد في الجامعة قبلي فلم أره بعدها. لكني لم أزل أبحث عنه في وجوه موزعي العطور. ويلوح لي بابتسامة وجهه العذبة كلما فتحتُ حقيبة يدي أو غبتُ بقراءة كتاب معطر.