تشير دراسة إحصائية إلى أن المصريين أكلوا 160 مليون دجاجة و40 ألف طن فول و11 بليون رغيف خبز خلال شهر رمضان. وتوضح الفواتير أن الشهر الفضيل التهم نحو 45 بليون جنيه من جيوبهم راح أغلبها لبند الغذاء. وتؤكّد العين المجرّدة أن الموائد الرمضانية شهدت هزة عنيفة، سواء من حيث المحتوى أو في ما يختص بالكم والكيف. وتلمّح أحاديث الأسر إلى أن تغيّراً جذرياً طرأ على كم الاستهلاك ونوعيته، لا من باب الوعي والاقتناع، ولكن من بوابة الاضطرار والضغط الناجم عن ضيق ذات اليد. وتذهب التوقعات إلى أن مصروفات العيد تتجه نحو تقليص إجباري وإعادة هيكلة لا غنى عنها، لا سيما وأن موسم الإنفاق الصيفي لا يزال في بدايته. أول ما طرأ على بال زياد (18 سنة، تلميذ في المرحلة الثانوية) وشقيقيه سارة (17 سنة) وفارس (12 سنة) بينما رمضان يستعد للرحيل، هو إجراء دراسة جدوى عنكبوتية للخروج بعرض مغرٍ لقضاء بضعة أيام على شاطئ البحر. وعلى رغم العروض التي بدت لهم جيدة، والأسعار التي هُيئ لهم أنها معقولة، إلا أن والديهما التزما صمتاً مريباً ورفضا الإدلاء بأي تعليقات خوفاً من أن تُحسب عليهما «موافقة»، فالموافقة مشروطة بعملية حسابية دقيقة لهذه العائلة التي خرجت لتوّها من معركة امتحانات شهادة الثانوية العامة استنزفت ما لا يقل عن مئة ألف جنيه دروساً خصوصية لزياد، وتستعد لخوض معركة ثانية للابنة المنقولة إلى الصف الثالث الثانوي. لذا اكتفى الأب بقوله: «ضربتان في الرأس توجعان، فما بالك بثلاث؟»! الضربة الثالثة المقصودة هي ضربة المصيف. هذا الحلم المنشود من قبل الملايين من الأبناء والبنات، والمرعب للآباء والأمهات الخارجين لتوّهم من معترك رمضان ونفقاته، والدروس الخصوصية وفواتيرها، والضغوط الاقتصادية المتواترة بعنف منذ قرار تعويم الجنيه المصري. ووفق لجنة الخطة والموازنة في البرلمان، فإن الغالبية العظمى من الأسر المصرية اقتطعت الجانب الأكبر من دخلها، على اختلاف مستويات الدخل، لشراء السلع الغذائية. وإذا كانت الأسرة المصرية تنفق نحو 45 في المئة من دخلها السنوي على الطعام، بمعدّل 200 بليون جنيه سنوياً، فإن شهر رمضان وحده يستحوذ على 15 في المئة من هذا الإنفاق. وفي ضوء تعويم الجنيه وارتفاع أسعار السلع الغذائية في شكل حاد، فقد بلغ معدّل الإنفاق اليومي للبيوت على الغذاء خلال هذا الشهر نحو 1.5 بليون جنيه. هذه البلايين المتمثلّة في ملايين الدجاجات وبلايين الأرغفة وغيرها لم تعد تعني كميات هائلة وإسرافات مُبالغ فيها، فالمصريون المتهمون دائماً بالإسراف الرمضاني في تجهيز الموائد وإعداد الولائم وجدوا أنفسهم هذا العام في خانة اليك، فالترشيد خلفهم وغول الأسعار أمامهم ولم يعد هناك بد إلا شراء أقل القليل، وشطب بنود البروتين أو تقليصها إلى أقصى الحدود، والارتماء في أحضان النشويات مع مقاطعة محلات الحلويات واستعادة لياقة الزوجات في تجهيز الكنافة والقطائف محلياً. يشير محمد عياد (صاحب محل كنافة وقطائف نيئة) إلى أن حركة الشراء شهدت ارتفاعاً كبيراً طوال الشهر الكريم هذا العام مقارنة بالأعوام السابقة. ويوضح: «يبدو أن نسبة لافتة من البيوت المصرية تنبهت إلى عدم امكان الاستمرار في شراء حلوى رمضان جاهزة، فهي تباع بأضعاف ثمنها في حال أعدّت في البيت». وتظهر على محيّا عياد علامة السعادة والانتصار، ويشرح: «المحل المقابل لي محل حلويات مشهور، وكانت سيارات الزبائن تسدّ الشارع في ساعات ما قبل الإفطار للشراء منه. هذا العام سبب سدّ الشارع هو اصطفاف الزبائن أمام محلي لشراء الكنافة والقطائف النيئة من عندي. مصائب قوم عند قوم فوائد». فوائد الترشيد كثيرة من دون شك. لكن حين يأتي الترشيد إجبارياً ولا يعني بالضرورة أن الأموال التي وُفرت من شراء الغذاء ستُخصص للمصيف أو الترفيه، فإن هذا يؤدّي إلى غضب كبير ومطالب مشروعة بإيجاد البديل. الأبناء الذين كانوا شهود عيان على تغيّر مكوّنات مائدة الإفطار الرمضانية، حيث وصلت البروتينات الحيوانية باهظة الأسعار إلى أدنى حدّ وظهور لها، وأفسحت المجال أمام النشويات والبروتينات النباتية، ظنوا أن الأموال التي وُفّرت يمكن أن تصب في خانة الترفيه الصيفي المتوقّع أن يبدأ مع أول أيام عيد الفطر. «ساعات أجد صعوبة بالغة في شرح الواقع لأبنائي، فأنا طوال الشهر أبرر لهم سبب توقفي عن شراء الحلويات من المحل الذي اعتدنا أن نشتري منه بصفة يومية في كل رمضان. كما كنت أفسّر لهم أن غياب اللحوم الحمراء عن مائدة الإفطار مردّه إلى واجبنا أن نوفر ولا ننفق أموالاً طائلة في سلع لها بدائل أرخص. وقد ظنوا أن جهود التوفير والإحلال والتبديل هذه ستجلعنا قادرين على حجز إجازة أسبوع في الغردقة أو شرم الشيخ عقب انتهاء شهر الصيام. وحالياً أبذل جهدي الفكري والذهني لأشرح لهم أن ما جرى طوال رمضان لم يعد اختيارياً، وأنه لم يكن توفيراً بقدر ما كان تدبيراً حتى يكفي الراتب لإكمال الشهر». المعاناة التي تجدها إسراء عبد المنعم (38 سنة، أم لثلاثة أبناء) لتؤهل أولادها لمواجهة الحقيقة المرة، ألا وهي أن الصيف هذا العام بلا بحر، تدور رحاها في بيوت مصرية مضغوطة كثيرة. وتلفت إلى أنها وجدت «في برامج الطبخ المبذّرة والمنتشرة على القنوات التلفزيونية طوال رمضان بديلاً معنوياً رخيصاً للولائم والموائد المتخمة بمحتوياتها. فحين تشاهد ما لذّ وطاب من مقبلات ولحوم ودواجن ومعكرونات وحلويات أثناء إعدادها تجوع أكثر، وتجلس إلى مائدة الإفطار فتأكل ما تيسّر فتشبع وتنسى ما شاهدته من بذخ. لكن لن أجرؤ على مطالبة الصغار بمشاهدة البحر على شاشة التلفزيون لأن شهيتهم للعب والسباحة والترفيه ستظل مفتوحة. فكيف أخبرهم أن المصيف أضحى في خبر كان؟».