قيل إن شخصاً عادياً تزوج سيدة عادية فأنجبت له ولداً عادياً، وهذه فلسفة النتائج والمقدمات، فإن تكون عادياً فهذا يعني أنك لست إضافة، أو على الأقل لم تكن إضافة جيدة، أو لم تكن إضافة كما ينبغي، باعتبار ما تتمتع به من قدرات وإمكانات، أو كما يتطلبه الموقف أو الظرف، والذي يظهر من واقع الحياة أن هذا الانطباع السلبي عن «العادية» قد حفز البعض إلى تجاوزها، أو حتى على النفرة منها، بيد أن التجاوز أو النفرة من السلبي ليس دائماً يمثل حال الرشد والصواب، فحينما لا يكون الإنسان قد تشكل وعيه نحو مستقبل مختلف ورؤية واضحة، فإنه يسبح في هواء فتهوي به الريح في مكان سحيق، وهذه مشكلات الدعوة المفتوحة والخطاب المجرد إلى التغير والتغيير والإصلاح... وهكذا عناوين أو هكذا شعارات. من حيث لا يشعرون أو يشعرون، فإنهم عاديون وعاديون جداً أولئك الذين يمارسون أدوارهم القديمة بما تمليه عليهم مؤدلجاتهم العميقة وبوصلتهم الخفية، عاديون وإن تغيرت المسميات وتبدلت الأدوات، وهم لن يتجاوزوا «العادية» إلى «الراهنية» إلا بتغيير مناطق الفعل وميادين الحركة (حركة العقل والنفس)، لا مجرد (حركة الأجساد) عبر تجمعات جوفاء، أو احتجاجات غوغاء. بالطبع لن يكون حديث المعاناة كحديث المشاركة، فالأول قد يستقطب التعاطف ويشعر بالألم، لكن نهايته البلادة والملل، أو التسكين والتبديد، أو حتى المناعة ضد العافية!! أما حديث المشاركة فهو تراكمي التشكل، يعيش الفرصة ويخلق مثلها، يزرع ليحصد، ويكتب المقدمة ليحرر النتيجة، يدور بين حق موجود، وحق مقصود، بيد أن الأول وإن تحرك فهو بين حق موجود وحق مفقود. ومن هنا فإن مناطق الإبداع من وجهة نظري تقع في مراكز ثلاثة مختلفة لما عهدته البرمجة العصبية للكثير منا، فهي في (المجهول، واللامعقول والممتنع). أما المجهول: فهو ما لا نعرفه، وهو المساحة الأكبر والأوسع مما نعلمه، وبقدر ما نتعرف على مساحة جهلنا ندرك قدر حاجتنا إلى زيادة المعرفة كماً وكيفاً (وقل ربي زدني علماً)، و(وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً). إن المجهول في العلوم والمعارف، والمجهول في السيرورات والحوادث، يحتم علينا علماً من نوع آخر هو «علم المستقبليات»، الذي يجب أن يأخذ طريقه وبقوة إلى مناهجنا الدراسية، وحواراتنا الثقافية، ومنتجاتنا الإعلامية، بدل العيش في مقابع التأرخة ومعسكرات العقائد. إن أدبيات الخوف من المجهول سيطرت على عقول البعض، ورسمت المجهول ليس إلا منطقة خطر أحمر لا يساوي إلا الهلاك أو السجن أو العقوبة، بيد أن كل ما ننعم به الآن كان في مناطق مجهولة، والذين فتحوا مجالات المجهول كانوا هم المبدعين حقاً، وأما المستهلكون فعاديون. بالطبع ليس هذا نداءً للجميع، وليس نداءً لغير الراشدين، وغير المزودين بأدوات العبور، لكنها الدعوة للجميع لتغيير الانطباع عن المجهول، ودعوة على الخصوص للذين آنسوا من أنفسهم رشداً وإبداعاً وقدرةً أن يغيروا مواقعهم، ويبحثوا في تشكلات المستقبل وأحداثه، وأن يشيدوا منشآت الزمن المقبل. (اللا معقول) حديث ذو شجون، إذا ما استحضرنا مفهوم العقل وحدوده وعلاقاته وتشابكاته، لكن حديثاً كهذا ليس هذا موضعه، إنما الكلام هنا في (اللا معقول) من حيث هو منطقة إبداع مخالفة للمعقول الذي تم تصوره أو ممارسته وجرت العادة عليه، الذي ليس هو إلا تكرار للمنتج وإعادة للوجود والظهور، أما «اللا معقول» فهو الإضافة الحقيقية للمعقول توسيعاً لمداركه، أو حدثاً جديداً لم يكن موجوداً، وعلى سبيل المثال فإن اللا معقول التكنولوجي واللامعقول في استخداماته قد جعل كل منتجات المعقول في مفترق طريقي التقدم أو التأخر، لذا فإن اختبارنا الحقيقي ونتائج اختباراتنا كلها ستظهر في اللامعقول، وعندئذٍ سيعلم الكسالى أي منقلب ينقلبون. إقرأ ما لا تفهم، وشاهد ما لا تعرف، وما لا تعرف، وكذا المجالسة، أو حتى المؤانسة. «اللامعقول» يعني أنك تستخدم نفسك في مناطق جديدة وبأدوات جديدة وستحصل على نتائج جديدة، وسيبدأ ذلك حين تدرك أن العقل ليس أكثر من أداة للإدراك وليس هو الإدراك ذاته، وأنه أداة للحفظ أو التركيب والتفكيك والتشكيل، وأما الآفاق فمن خصائص الأنفس (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم)، أو ليس العقل حِجراً!! (هل في ذلك قسم لذي حجر). وكأنني أقول لك إن «اللا معقول» ليس فقط ما يقابل المعقول، بل هو مشتركات كثيرة، وما قلته في «المجهول» كذلك هو هنا ليس دعوة مفتوحة لغير ذي صفة، كما في التعبير القانوني. تعميق «اللامعقول» والحديث عن «الممتنع» سيكون حديثي مع قارئي في المقال المقبل بإذن الله. [email protected]