في المهرجان المسرحي لجامعة عين شمس (مصر)، حصل عرض «سينما 30» الذي قدمته كلية التجارة على جائزة أفضل عرض، وحصل مخرجه ومؤلفه محمود جمال على جائزة أفضل مخرج. واللافت أن المهرجان الذي شاركت فيه 13 كلية، شهد مشاركة جمال بنصين آخرين، فاز أحدهما وهو «مدينة الثلج» بجائزة أفضل نص. أكثر من سبعين ممثلاً وممثلة على خشبة المسرح خاضوا حركة دائبة ومستمرة ومحتدمة، من دون ارتباك أو هفوات، ومن دون أن يختل إيقاع العرض أو تنتاب المشاهد لحظات ملل ينصرف خلالها عن المتابعة وتحصيل المتعة البصرية والفكرية، فكل ما على الخشبة ممتع على مستوى الصورة والفكرة الذكية التي يرسلها العرض بسلاسة ونعومة. وقد تظن للوهلة الأولى، أنه لو لم تكن لديك معلومات عن هوية الفرقة، أنك أمام ممثلين محترفين ومتمرسين وليسوا مجموعة من طلاب الجامعة هواة المسرح، وذلك كله يعود إلى خبرة المخرج وقدرته على توظيف طاقات الطلاب الممثلين. لا شيفرات في العرض يصعب فكها، ولا نزوع إلى تجريب من أي نوع، فهو يعتمد أساساً على قدرات مخرج وممثلين، وعلى السينوغرافيا التي تشمل الحركة والصوت والإضاءة والموسيقى والأزياء والديكور. وهي عناصر تضافرت لتصنع «حالة مسرحية»، فيها من الصفاء والإشراق والبساطة والبهجة بمقدار ما فيها من عمق. نحن أمام أهالي قرية يعيشون في ظلام العصور الوسطى على رغم أنهم في ثلاثينات القرن الفائت، عندما يشاهدون الكاميرا للمرة الأولى في حياتهم يظنون أنها آلة لرفع المياه، أو للاتصال، وبعضهم يظنها آلة للحرب، وجميعهم يخشونها. أما السلطة، التي ليست أقل جهلًا منهم، فمطمئنة إلى جهل الأهالي، راغبة فيه باعتباره المعين لها على تثبيت دعائم حكمها، لذلك يحدث الصدام عندما تكتشف أنهم في سبيلهم إلى المعرفة. تدور أحداث العرض عام 1930، وقد اختار أحد المخرجين قرية «ضي القمر» ليصور فيها أول فيلم مصري ناطق بعنوان «غرام في الأرياف». يأتي إلى القرية وسط ترحيب ودعم سلطتها الممثلة في مأمور المركز والعمدة، بينما يلقى معارضة من أهل القرية عندما يتعرفون على موضوع الفيلم الذي سيشاركون في تصويره، ويرون فيه خروجاً على تقاليدهم. يلجأ المخرج إلى حيل عدة فيغريهم بالمال تارة، ويوضح لهم تارة أخرى أن ما يدور في الفيلم مجرد قصة لأناس آخرين غير من يجسّدونهم، وفي النهاية يقتنع الأهالي. وتكتشف السلطة التي تراقب الكاميرا أن قطعة الحديد هذه، كما يصفونها، تنقل الحركات والسكنات صوتاً وصورة، وتكشف المستور وتجعل من يقف أمامها يبوح بما داخله، أي تكتشف أنها وسيلة للتعبير. ومن هنا تتحول السلطة- لأنها ديكتاتورية وغاشمة ولا تقبل التعبير عن الرأي- من حالة الترحيب إلى حالة المعارضة والمطاردة، وتبدأ مضايقاتها التي من بينها تعذيب من يصر من الأهالي على الوقوف أمام الكاميرا. هكذا استطاع المخرج - المؤلف تمرير أفكاره بواسطة لعبة ذكية وبسيطة ليؤكد أن حرية التعبير هي ألدّ أعداء كل سلطة غاشمة وديكتاتورية. لم تكن الفكرة الذكية وحدها بطل العرض، بل برزت أيضاً طريقة نقلها إلى المتلقّي عبر معادل جمالي يبهج ويمتع بمقدار ما يثير أسئلة. الأبيض والأسود فقط ولا لون آخر في هذا العرض يعيدك بديكوره (محمود عطية) وأزيائه (أميرة صابر) وإضاءته (أبو بكر الشريف) إلى أجواء الريف المصري في ثلاثينات القرن الماضي وكيف كان مجتمعه يعيش ويفكر، وماذا كانت أحلام ناسه وأهمها زيارة القاهرة التي يسمّونها «مصر»، حتى أن أحدهم تخيل أنه زارها وبدأ وصفها ووصف طبائع سكانها، ولأنه صاحب خيال كان أكثر من تعرضوا لتعذيب السلطة، في دلالة أخرى أن الديكتاتورية لا تحب أصحاب الخيال، أو بمعنى أدق تخشاهم، تماماً كما تخشى الكاميرا وأي وسيلة للتعبير. جسَّد المخرج عملية التصوير وحركة الكاميرا وتوزيع الممثلين في شكل بارع وإيقاع منضبط، فشعر المشاهد بأنه يتابع ممثلين محترفين يعرفون جيداً زوايا التصوير التي يجب اتخاذها، وأمام مصور محترف يوجه الكاميرا في الوجهة الصحيحة، كل ذلك غلَّفته موسيقى متوترة تجسد لحظات الصراع والاحتدام في الفيلم المفترض تصويره أمامنا على المسرح. لم يكتف المخرج - المؤلف بعرضه المسرحي بل أتبعه بفيلم تسجيلي يتناول حياة أهل القرية، وكأنه يقول لنا إن الفيلم هو الصورة بينما الموجودون على الخشبة هم «النيغاتيف»، وهنا أدّى الماكياج دوراً مهماً في تصوير هؤلاء وكأنهم «نيغاتيف» فعلاً من خلال استخدام اللون الرمادي في طلاء وجوههم، وإن كانت الخامة المستخدمة خذلته في بعض الأحيان ولم تصمد كثيراً أمام شدة الإضاءة التي يبدو أن مصمم الماكياج لم يضعها في حساباته. لم يترك المخرج شيئاً للمصادفة أو الاجتهاد غير المبني على معلومة، إذ استعان بمراجع لهجة، ومراجع لتاريخ السينما المصرية، ومراجع عن تاريخ الريف المصري، حتى لا يفلت منه شيء أو يقدم شيئاً لا علاقة له بالريف، فهو يعمل في إطار واقعي صرف وأراد لإطاره ألا يختلط بأطر أخرى تحدث نوعاً من الارتباك أو الفصل. عرض «سينما 30» يمكن اعتباره كلاسيكياً بامتياز لا مجال فيه لتجريب أو انحراف عن السائد، لكنها الكلاسيكية المنضبطة الواعية التي تدرك أن المسرح صورة لا مجرد أفكار، وليست حتماً منصة للخطابة.