منذ نهاية العام الماضي بدأت الدعوات والاستعدادات لعقد ندوات في تركيا ودول البلقان ودول أوروبية اخرى بمناسبة الذكرى المئوية للحرب العالمية الاولى التي غيّرت وجه العالم مع انهيار أربع امبراطوريات كبرى (الروسية والالمانية والنمسوية - المجرية والعثمانية) ورسمت خريطة جديدة للمنطقة مع انهيار الدولة العثمانية وفشل «الثورة العربية» في تحقيق ما قامت لأجله لمصلحة صيغة سايكس – بيكو التي أصبحت مهددة بدورها في ذكراها المئوية. ونظراً الى ان اندلاع الحرب العالمية الاولى رُبط باغتيال ولي عهد النمسا-المجر الارشيدوق فرنسوا فرديناند على يد شاب صربي هو غافريلو برنسيب، في أحد شوارع سراييفو في 28 حزيران (يونيو) 1914 فإن النقاش حول مئوية الحرب العالمية الاولى بدأ مبكراً حول برنسيب ودور صربيا في إشعال الحرب العالمية الاولى ليثير بعض الاسئلة التي جاءت أجوبتها مختلفة: هل برنسيب كان «مناضلاً» أم «ارهابياً» ؟ وهل صربيا مسؤولة بالفعل عن اشعال الحرب العالمية الاولى؟ وهل ان الحرب اندلعت بسبب هذا الاغتيال السياسي أم انها كانت لتندلع مع هذا الاغتيال وبدونه؟ ويلاحظ أن هذا النقاش الذي لا يزال مفتوحاً يتداخل مع شجون الامس واليوم في البلقان، حيث لا تزال المشاعر والافكار تفصل بين الشعوب والدول وحتى بين الشعب نفسه. فجمهورية صربيا (التي تعتبر الدولة الام للصرب) قامت بتسليم رادوفان كاراجيتش وراتكو ملاديتش الى محكمة لاهاي الدولية باعتبارهم «مجرمي حرب» ولكن صورهم لا تزال ترفع في «جمهورية الصرب» المجاورة (49 في المئة من دولة البوسنة) باعتبارهم «مناضلين» بينما تثير مثل هذه الصور مشاعر الأسى في النصف الآخر لدولة البوسنة. وفي هذا السياق لا يعود من المستغرب أن يستمر الانقسام حول برنسيب كما هو الأمر حول كاراجيتش وملاديتش. تغريد خارج السرب ولكن لدينا أصوات جديدة سواء من البوسنة أو من خارجها تدخل ضمن «المراجعة» الجارية بمناسبة مئوية الحرب العالمية الجديدة، وهي تحمل جديداً سواء بالنسبة الى برنسيب بالذات أو بالنسبة الى مسؤولية صربيا لوحدها عن اندلاع الحرب العالمية الاولى. وقد بدأت هذه الاصوات تُسمع مع نهاية 1913 التي شهدت بداية الاستعدادات للندوات والمؤتمرات التي ستعقد في صيف وخريف 2014. وكان من اللافت للنظر أن يكون من أهم هذه الاصوات المؤرخ البوسنوي المعروف محمد فيليبوفيتش عضو أكاديمية العلوم في البوسنة الذي «يغرد خارج السرب» بالنسبة الى مواطنيه المسلمين، حيث أصدر بهذه المناسبة كتابه الاخير «وهم البوسنة». ففي مقابلة مع وكالة الانباء الصربية «تانيوغ» بتاريخ 3/11/2013 اعتبر فيليبوفتش ان برنسيب لم يكن «ارهابياً» بل كان «مناضلاً ضد الاحتلال الاجنبي لبلاده». ويذكّر فيليبوفيتش ان النمسا احتلت البوسنة في 1878 وأدى احتلالها الى تغيير دراماتيكي في تركيبة البوسنة حيث هاجر منها حوالى 300 ألف مسلم احتجاجاً على الاحتلال بينما قامت سلطات الاحتلال بتوطين 200 الف كاثوليكي ومارست سياسة تمييز ضد الصرب الارثوذكس. وفي مثل هذا الجو، كما يقول فيليبوفيتش، نشأ برنسيب مشبعاً بمثله العليا لرفض الاحتلال الاجنبي «في وقت كان فيه الاغتيال السياسي يعتبر اسلوباً مشروعاً ضد المحتل». وفي هذا السياق يذكر فيليبوفيتش ان الارشيدوق جاء الى سراييفو لحضور مناورات عسكرية على حدود صربيا والجبل الاسود، وان الاطماع النمسوية لم تقف عند حدود البوسنة بل كانت تتطلع الى مقدونيا بالتعاون مع ألمانيا والدولة العثمانية. ويقف فيليبوفتش مع المؤرخين الصرب وغيرهم الذين يعتبرون ان الانذار النمسوي لصربيا بتحميلها مسؤولية العواقب في حال رفضها السماح بإجراء تحقيق نمسوي في أراضيها، وهو الذي رفضته بلغراد وأدى ذلك الى اندلاع الحرب بين البلدين التي توسعت بسرعة لتصبح عالمية، كان مصاغاً بشكل ينتهك سيادة صربيا وهو ما كان يدفع أية دولة أخرى الى رفضه. ولكن الاهم ما انتهى اليه فيليبوفيتش، ويشاركه في ذلك بعض الاصوات الجديدة، من أن الحرب العالمية الاولى كانت «محضّرة» سواء جرى هذا الاغتيال في سراييفو أو لم يجر. يذكر أن أستاذ التاريخ الاوروبي في جامعة كامبردج كريستوفر كلارك الذي كان يصف سابقاً برنسيب بأنه «ارهابي» أصبح يقول عنه في كتابه الجديد «السائرون في نومهم: كيف اندفعت اوروبا الى حرب 1914» انه «مغتال». وفي هذا السياق يشير كلارك أيضاً الى التضارب الحاصل حوله وحول غيره اذ أن هناك من يعتبره «ارهابياً» وهناك من يعتبره «بطلاً في سبيل الحرية»، ويرفض الآن تحميل صربيا لوحدها مسؤولية الحرب العالمية الاولى. فصربيا، وفق رأي كلارك، لم تكن تختلف عن المانيا أو عن ايطاليا والمشكلة هي في الانطباع العام الذي تشكل عند كل الدول من أن الحرب يمكن أن تكون الحل. ومن هنا ينتهي كلارك الى ان كل اوروبا كانت مفعمة بالخطر، وأن الخطر لم يأتِ من مركز او من اثنين (برلين وفيينا) بل من كل المراكز. صوت الحفيد ومن هذه الاصوات كان أيضاً صوت كارل هابسبرغ- لوثرينغن حفيد ولي عهد النمسا والمجر ضحية «اغتيال سراييفو»، الذي انضم الى القائلين بهذه المناسبة أن الحرب العالمية الاولى كانت ستقع حتى لو لم يقتل جده الارشيدوق. وفي هذا السياق يقول الحفيد انه «من الخطأ رفع اصبع الاتهام ضد دولة واحدة، وإذا كان لا بد من ذلك فلا بد الأخذ في الاعتبار وجود نزاعات واضحة بين بعض الدول مثل ألمانيا وروسيا أدت الى حشد قواتها على الحدود». مع ذلك يميل الحفيد الى تحميل المسؤولية الى النزعة القومية الصربية التي سقط جده ضحية لها. فامبراطورية النمسا والمجر كانت تضمّ كرواتيا وسلوفينيا والبوسنة ومئات الألوف من الصرب وهؤلاء كانوا يشعرون بالغبن من الدولة الثنائية في الوقت التي كانت الدعاية القومية الصربية تحرض هؤلاء على تشكيل دولة قومية واحدة للصرب أو سلاف الجنوب/ اليوغسلاف. وفي هذا السياق يرى الحفيد كبعض المؤرخين أن جده قتل لأنه كان على وشك القيام بإصلاح داخلى في الامبراطورية يحقق المساواة بين العناصر الثلاث (الالمان والمجر والسلاف)، لأنه لو تمّ ذلك لفقدت النزعة القومية الصربية أهم تربة لها (البوسنة). مع اقتراب مئوية اغتيال ولي العهد في سراييفو، الذي لا يزال النقش التذكاري يخلّده هناك، ترتفع أصوات جديدة وتطرح أفكار أخرى عن الحرب وما خلفته، على حين أن المنطقة هنا تتعامل مع الحدث كأنه لا يعني شيئاً لها.