أجاز رئيس إحدى المحاكم التركية محاكمة الرئيس عبد الله غل بتهمة التزوير، فاتحاً بذلك الباب أمام مسار جديد من التجاذبات السياسية بين دعاة التغيير والمتمسكين بالوضع القائم. تعود القضية إلى العام 1998، حين تم حل حزب الرفاه الإسلامي بقرار قضائي بعد الإطاحة بحكومة نجم الدين أربكان بواسطة إنذار عسكري أصدرته هيئة قيادة الأركان في 28 شباط (فبراير) 1997. فقد طالبت المحكمة في قرار حل الحزب الإسلامي والحجر السياسي على شخصياته القيادية، بإعادة مبلغ تريليون ليرة تركية كان تلقاه من الخزينة العامة وفقاً للقانون الذي يمنح الأحزاب السياسية دعماً مالياً بما يتناسب مع النسبة المئوية لتصويت الناخب التركي في عموم البلاد لكل من الأحزاب التي نجحت في دخول البرلمان. عبد الله غل الذي شغل في ذلك التاريخ أحد المواقع القيادية في الحزب، أفاد في حينه أن الترليون ليرة تم إنفاقه بالكامل، وأغلقت القضية المرفوعة ضده بتهمة التزوير بسبب الحصانة التي كان يتمتع بها كنائب في البرلمان. من مفارقات الدستور التركي الذي صاغته الزمرة الانقلابية في العام 1982، أن الحصانة التي يتمتع بها نواب المجلس والوزراء في الحكومة ورئيس الوزراء، يحرم منها رئيس الجمهورية. لكن الناطق باسم القصر الرئاسي رد على رئيس المحكمة التي أجازت محاكمة غل الآن، بالقول إن الدستور ينص على أن رئيس الجمهورية يحاكم على الخيانة الوطنية وحدها. هذا يعني أن الاجتهادات الفقهية ستشكل باباً للتجاذب السياسي المستجد في الحياة السياسية التركية، بعد فترة من الهدوء النسبي منذ خريف العام 2007، بعد انتخاب غل وتشكيل حكومة رجب طيب أردوغان المنبثقة عن الانتخابات العامة في صيف العام 2007. يتضح من حيثيات القرار القضائي الجديد أن الأمر يتعلق بنوايا كيدية تهدف إلى إضعاف موقع رئاسة الجمهورية وشل فاعليتها السياسية، في وقت شهد حركة نشطة لعبد الله غل على صعيد العلاقات الدبلوماسية مع الخارج، والأهم سلسلة من التصريحات أدلى بها مؤخراً أعطت إشارات إيجابية لحل المسألة الكردية حلاً سلمياً، لاقت بدورها صدىً طيباً في الداخل والخارج. ذلك أنه من غير المتوقع أن يتمكن القضاء من محاكمة غل فعلاً بتهمة التزوير، دون ذلك غالبية برلمانية كبيرة بإمكانها تعديل الدستور لمنح موقع الرئاسة حصانة قضائية، ودون ذلك حكومة حزب العدالة والتنمية الذي انتخب غل من بين صفوفه لتبوأ المنصب الأول، ودون ذلك مجتمع دولي بإرادة معلنة في تعزيز النظام الديموقراطي في تركيا. وضوح الكيدية في إجازة القضاء محاكمة غل، تدفع المراقبين إلى التركيز على التوقيت السياسي للقرار الذي يشير بصورة رئيسية إلى تصريحات غل المتفائلة التي أعلن فيها عن وجود توافق تام حول أولوية الحل السلمي للمسألة الكردية بين مؤسسات الدولة ذات الصلة، وهي الحكومة وقيادة هيئة أركان الجيش وغالبية برلمانية ودعم أميركي – أوروبي معلن للحل السلمي. إن مجرد الإشارة إلى غل بوصفه مشتبهاً به في جناية تزوير المعلومات في «قضية الترليون ليرة» كما تسمى في الإعلام، من شأنه تقويض المساعي السلمية للرئيس بصدد المشكلة المزمنة التي دفعت تركيا ثمنها غالياً من دماء أبنائها من كرد وترك، فضلاً عن الخسائر المادية الهائلة وتعزيز دور الجيش في الحياة العامة وتسميم الجو داخل المجتمع باتجاهات شوفينية وثأرية تستسهل القتل والمجازر. كان لافتاً ذلك الاتفاق غير المقصود بين عبد الله غل ومراد قرة يلان، قائد حزب العمال الكردستاني، على وجود فرصة كبيرة الآن لإيجاد حل سلمي للمشكلة، في تصريحات منفصلة أطلقها الرجلان مؤخراً، وعبّرا عن رغبتهما في «عدم إضاعة هذه الفرصة» كما ضاعت غيرها. ولعل الإشارة الأقوى إلى أن الفرصة سانحة فعلاً للمضي قدماً نحو الحل السلمي، تمثلت في استقبال الرئيس غل للكاتب في جريدة ميللييت حسن جمال الذي أجرى مقابلة مطولة مع قرة يلان في معقل الحزب في جبل قنديل على الحدود التركية العراقية الإيرانية، بعد أيام قليلة على عودة الأخير إلى أنقرة. تعود الفرصة الجدية الأولى لحل المشكلة إلى عهد الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال الذي لجأ، في العام 1993، إلى توسيط جلال طالباني، رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني في العراق، بينه وعبد الله أوج آلان الذي كان يقيم حينها في العاصمة السورية. في ذلك الوقت كان ثمة آمال عريضة معلقة على توافق الطرفين على رغبتهما في الوصول إلى حل سلمي. حدثان بارزان نسفا تلك المساعي والآمال، بعد أسابيع على حركة جلال طالباني بين دمشقوأنقرة: الأول كمين نصبه مقاتلو حزب العمال الكردستاني، في ولاية بينغول شرقي الأناضول، لجنود من الجيش التركي قتل منهم فيه 33 جندياً، في وقت كان أوج آلان قد أعلن فيه وقف إطلاق النار من جانب واحد كبادرة حسن نية لتشجيع الحكومة التركية على الدخول في مفاوضات معه. وينسب إلى أوج آلان أنه قال بعد العملية المذكورة إن جهات في استخبارات الجيش التركي قد ضللت الحزب حين سربت إليه موعد انطلاق الحافلة التي ستقل الجنود. وكان فحوى التضليل يتعلق بأن الجنود في مهمة عسكرية للقيام بهجوم على مقاتلي الحزب، في حين أن الحقيقة كانت غير ذلك، فقد كان الجنود في طريقهم لقضاء إجازاتهم في بيوت ذويهم، ولم يكونوا مسلحين. والحادثة الثانية هي الموت الغامض للرئيس أوزال الذي ظل لغزاً إلى اليوم، وثمة الكثير ممن يعتقدون بأنه تعرض لاغتيال قامت به قوى متضررة من السياسة المنفتحة للرجل. ويمكن قراءة مجزرة قرية بلغة في ولاية ماردين، أوائل هذا الشهر، في إطار الألغام التي تريد قوى معينة تفجيرها في طريق أي انفراج سلمي. فقد قنّع الجناة وجوههم وخططوا للجريمة بحيث تبدو للمراقب وكأنها من عمل حزب العمال الكردستاني، لأن الضحايا من ميليشيا حراس القرى الموالية لأجهزة الدولة. * كاتب سوري