كنت مع العائلة في فندق فينيسيا في بيروت لمناسبة اجتماعية عندما هبط علينا وزراء الداخلية العرب في نهاية الأسبوع وعقدوا دورتهم السادسة والعشرين وسط حماية أمنية مكثفة جعلت دخول الفندق والخروج منه في صعوبة تحرير الأراضي المحتلة. صديق من بين النزلاء قال لي ان وزراء الداخلية العرب فاشلون، واعتقدت بأنه يبدي موقفاً سياسياً، إلا أنه أكمل قائلاً انهم يتحدثون عن الإرهاب ومكافحته، وهناك 20 منهم في الفندق عجزوا جميعاً عن اعتقال زوجته. قال ان زوجته إرهابية، وهي لا تنتمي الى أي منظمة معروفة، لأنها بذاتها منظمة من عضو واحد، فهي ترهبه، وإذا قاومها زاد الإرهاب، تماماً مثل الحرب على الإرهاب التي أعلنها بوش سنة 2001، وزادت الإرهاب سنة بعد سنة، بدل أن تقضي عليه. الصديق كان يهذر، غير أن هذره جاء على الطريقة الإسرائيلية، أو نقل التهمة الى الآخر، لأنه إذا كان من إرهاب عائلي في أي مجتمع عربي فالرجل يمارسه والمرأة ضحيته، فهي أذكى وأجمل من الرجل، إلا أنها أضعف وهو بالتالي ينقل اليها مسؤولية فشله الشخصي والقومي. ليست عندي مشكلة ارهاب، فقد رفعت الراية البيضاء مبكراً، إلا أنه كانت لي ملاحظة على وزراء الداخلية العرب ومؤتمرهم، فأنا لا أفهم الطوق الأمني الذي أحاط بالفندق والمنطقة كلها، لأن المفترض أن يخيف وزير الداخلية الناس لا أن يخاف منهم، أو هذا على الأقل ما أذكر عندما تركت بيروت الى لندن قرب نهاية 1975. في تلك الأيام كنا إذا رأينا رجل أمن «نزرّر» الجاكيت وننتقل الى الرصيف الآخر خوفاً وحذراً. ووجدت في لندن ان رجل الأمن يخاف من الناس حتى انني يوماً رفضت أن أسلم في المطار طيوراً اصطدتها في هنغاريا مع أن رجال الجمارك أبلغوني ان إدخال اللحم النيء ممنوع، وجادلتهم وأنا أعرف أنني لو فعلت هذا في مطار عربي لعُلِّقت مع الطيور بسرعة. غير أن هذا كان قديماً على ما يبدو فوزراء الداخلية الأشاوس لم يذهبوا الى القصر الجمهوري إلا بعد إخلاء الطرق لهم، وكنت أمشي الى مكاتب «الحياة» وأسمع أبواق السيارات تنطلق من الشوارع الجانبية احتجاجاً، وأشعر بأنني في موكب سيارات عرس لا ينتهي. الوزراء العرب اتفقوا على ثلاث خطط كل منها مدته ثلاث سنوات، وهي لمكافحة الجريمة والتوعية الأمنية وسلامة المرور. وكلها مهم إلا أنني توقفت عند الخطة الثالثة، أو حركة السير في العواصم العربية التي أعرف، فالوزراء في بيروت ضمنوا السلامة المرورية بمنع السير حيث ذهبوا، وهذا حل موقت فالأمة «واقفة» أصلاً ولا يمكن أن تزيد عليها تجميد حركة السير. اعرف أن حوادث السير ربما كانت أنجح طريقة لتحديد النسل في البلدان العربية، إلا أن هذه طريقة إسرائيلية لا يجوز ان تستمر، خصوصاً مع تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية التي جعلت رجلاً يقول لأولاده انه لم يعد يستطيع أن يعيلهم كلهم، لذلك فهو مضطر ان يعيد واحداً منهم الى بطن أمه. أرجو أن تنجح خطة الوزراء لتحسين السلامة المرورية، ولكن اقترح عليهم في غضون ذلك أن يصدروا مرسوماً بتحريم زحمة السير وتجريمها بعد نصف الليل، ففي بلاد العالم الأخرى هناك ازدحام يومي ساعات الذهاب الى العمل صباحاً وتركه بعد الظهر. أما في بلادنا فالزحام ليل نهار، وهو في القاهرة صباح مساء، وفي الثانية بعد منتصف الليل. أرجو ألا يسألني القارئ ماذا كنت أفعل في الثانية بعد منتصف الليل في القاهرة، حتى لا أسأله لماذا لم يتوقف على الضوء الأحمر. وهذه معضلة أخرى ربما حاول وزراء الداخلية سبر أغوارها، فالمواطن العربي لا يجلس وراء مقود القيادة في سيارة حتى يصاب بعمى ألوان فلا يعرف الأحمر من الأخضر أو الأصفر. بل ان المرأة العربية التي تعرف الفارق بين الأحمر و «الفوشيا» تصاب بعمى ألوان وهي تقود سيارتها. لا أعرف إذا كانت الخطط الثلاث التي أطلقها وزراء الداخلية العرب ستنجح، إلا أنني قد أعود اليها مع القراء بعد ثلاث سنوات لتقييمها أو تقويمها. ما أعرف الآن هو اننا لم نحاول حل مشكلة، إلا وانتهينا بأكبر منها. وسأتجاوز السياسة والإرهاب وأكتفي بذكرى مرورية، فبين أقدم ذكرياتي في بيروت، وهي تسبق سنوات المراهقة، ذكرى استقدام السلطات اللبنانية رجالاً من شرطة السير الإيطالية، فكان الواحد من هؤلاء يقف وسط تقاطع طرق، وهو يرتدي ثياباً بيضاء نظيفة أنيقة، ويشير بذراعيه للسير أو الوقوف، ويدور على قدميه بحركات شبه عسكرية، فيجتمع الناس في المكان للفرجة وتتعطل حركة المرور نهائياً، فيما بعض السائقين يحاول أن يخاطبه بلغة يفهمها الاثنان. اليوم لم نعد نحتاج الى استيراد من يعطل السير لنا، فنحن نعطله بشكل يقصر عنه «الخواجات» في نيويوركولندن. والحوادث في بلادنا لا تحتاج الى خمر كما في الدول الغربية، فنحن نصنعها في حال صحو كامل، وعن سابق تصور وتصميم. وهذا يذكّرني بالرجل الذي أوقفه شرطي مرور في آخر الليل لأنه كان واضحاً أنه يقود سيارته وهو مخمور. وزعم الرجل أنه في طريقه الى محاضرة عن أضرار الخمرة. وسأله الشرطي بريبة من يحاضر عن الخمر في نصف الليل؟ ورد الرجل: زوجتي. أخيراً بدأ جلاء الوزراء عن فندق فينيسيا بعد نهاية مؤتمرهم الاثنين. وعدت الى لندن الثلثاء، ومن المطار الى مكاتب «الحياة» لأجدها محاطة برجال أمن، واعتقدت بأن الوزراء انتقلوا الى لندن، إلا أنني وجدت أن أخانا سعد الحريري، رئيس الغالبية البرلمانية اللبنانية، يزور «الحياة» ترافقه السفيرة القديرة السيدة إنعام عسيران، وكان خفيفاً لطيفاً لم يعطل السير في الشوارع المحيطة بنا.