كنت في مدينة السليمانية حين وصلني الخبر المفجع برحيل الشاعر العراقي خليل الأسدي، ذلك الشاعر المتميز، الناسك في الحياة، والمُترهبن تجاه متطلباتها الكثيرة، من مال وجاه وأضواء وشهرة. اكتفى بشهرة تفرد الحروف التي يكتبها، حروف الشعر التي لم يكتب غيرها، لا نثراً ولا نقداً ولا نصوصاً. كتب الشعر وحده، شعره الحافي، المكتفي بالرموز والتوريات والمعاني والاستعارات الأنيقة، شعره الصافي الذي وسمه باكراً بالتميز والاكتمال والبهاء الشاعري، أعني الندرة في الخيال الشعري الذي كان يمتلكه، ثم القدرة على أن تكون فريداً، من دون حوامل ورافعات ومنصات ومنابر ودور نشر ومجلات وصحف. شاعر أشاح عن كل هذه المباذل، عن كل هذه المغريات، وسلم ذائقته ومخيلته وحبره الثمين إلى الصمت والضوء الداخلي المنبعث من العتمة والانزواء والعزلة. خبر رحيل خليل، وأنا في السليمانية، وعلى مقربة بضعة كيلومترات منه، قد أربك سفرتي، وخلخل طمأنينتها، وزعزع نبضي قليلاً، أحسست أنني أفقد جزءاً مني، وأخسر عضواً مهمّاً من كياني وجسدي ووجودي، فهو من لوَّن أيامي الماضية بالجمال والدفء والشغف والغبطة. أيام الفتوة ربطتني بخليل الأسدي علاقة وثقى، قديمة، ساحرة، بتلك الأيام الشعرية الفتية. فاتنة كونها شكلت البناء الشفاف والأسس الأولى لتجربتنا الشعرية، تلك التجربة الحافلة باليوتوبيا، والمُتخيَّل اليومي، وبالحلم المبني من الرؤى والكلمات وشظايا الأحلام. كانت المرة الأخيرة التي التقيت فيها خليل الأسدي، في عام 2006 أثناء أيام مهرجان «المدى» الثقافي. قضّينا وقتاً ممتعاً في أربيل، ومن ثم السليمانية، وهناك نزلنا معاً في غرفة كبيرة. كان خليل يحب أن يفرش على الأرض وينام، صوَّرته عدة صور بكاميرتي، ومن ضمنها وهو نائم كطفل على البلاط، سارحاً في أحلامه الشعرية. كتبت عن خليل الأسدي قصيدتين، أثناء حياته، واحدة نشرتها في ديواني «التطريز بالكرز» الصادر في بيروت عام 2010 حملتْ عنوان «المضبوع» وفيها تصوير لغربته الاستثنائية وحياته العدمية وتهويماته المبدعة. وأخرى قبل أقل من عام سمّيتها «كرّادة الماء» نشرتها في هذا المنبر الأغر، وفيها أستعيد أيامنا الجميلة الضائعة، في شوارع الكرادة، وحاناتها ومقاهيها وساحاتها، إبَّان سنوات السبعينيات من القرن المنصرم. لقد نشأنا معاً، خليل الأسدي والشاعر زاهر الجيزاني وأنا في حي فقير، اسمه» تل محمد»، في منطقة تتكون من ألف دار، ضمن نطاق حي «بغداد الجديدة». كانت بيوتاتنا قريبة من بعضها، والأزقة صغيرة، والمسافة مرسومة ومختصرة، إذ لا تفصلنا عن بعض سوى أمتار قليلة. نشأنا على حلم الشعر والعالم الحالم للشعراء، ليس لنا غير هذا الحلم، ننام ونصحو عليه، نكتب تجاربنا الأولى، ونجتمع لنقرأ ونناقش ما كتبنا. كنا نكتب الشعر الكلاسيكي بحكم السن واليفاع، وعدم الاطلاع الكافي على الشعر العربي الجديد، وعلى تجارب الشعر العالمي، لكن بلقاءاتنا المتواترة يومياً، وبقراءاتنا النهمة والمثابرة، المتنوعة والكثيرة ، خرجنا معاً من عباءة الشعر التقليدي سريعاً، نحو فضاء الشعر الجديد، الشعر الموزون المعروف بالتفعيلة، وشعر قصيدة النثر، باستثناء خليل الذي التزم طيلة حياته الشعرية القصيدة الموزونة، الحديثة، ولم يُجرِّب قصيدة النثر أبداً. كنا في الحقيقة نبني أنفسنا شعرياً، بصمت، نتطور بسرعة لافتة، فالتحولات الجمالية تمت بزمن قصير جداً، عابرين بخفة، من شكل فني إلى آخر. كان العالم الذي كنا نبحث عنه، مركوناً إلى جانبنا، وما علينا، في تلك الآونة، سوى الالتفات إليه، والذهاب إلى جماله الغافي في نصوص لا تحصى، تاركين البحتري والمتنبي وأبا تمام وأبا العلاء، سادرين في منظومتهم الذهبية، لنصطحب هذه المرّة، في تجوالنا الدائب ومسيرتنا اليومية، السياب والبياتي ونازك وأدونيس وغيرهم من عمالقة التجديد في القصيدة العربية الحديثة. بدايات بعد هذا العناء البلوري والشقاء الماسي والتجوال الرؤيوي، في النصوص والسبائك الشعرية العربية والأجنبية، نشرنا المحاولات الشعرية الأولى، وأيضاً نشرنا بعد عناء من الرفض الدائم لنصوصنا، من المسؤولين على الصفحات الثقافية في الصحف العراقية، فنحن نعيش في بلد الشعر والشعراء على مرّ الأزمنة، والنشر لا يتم إلا عبر التأكد من الموهبة، وسلامتها الفنية واللغوية والتعبيرية، حتى تم لنا ذلك الاختراق البهيج والضوئي لنصوصنا، فنشرنا قصائدنا الأولى، خليل الأسدي وزاهر الجيزاني وأنا في صحيفة «طريق الشعب» لسان حال الحزب الشيوعي العراقي، وكانت تلك المرة الأولى التي ننشر فيها شعراً، وكانت قصيدة خليل الأسدي كما أتذكر، تشي بشاعر متقدم ولافت، وتحمل القصيدة نفساً جديداً في الشعرية العراقية، كونها كانت تتنبأ بما سيؤول إليه العراق لاحقاً، من انتكاسات وانعطافات تاريخية، أدخلته في أتون الفاشية والحروب، وسلسلة متواصلة من الدمار والخراب والاحتراب المستمر بين الأجنحة السياسية العراقية، كان اسم القصيدة الرؤيوية لخليل الأسدي « الأسلحة». كانت صحيفة «طريق الشعب» تتمتع بصدقية أدبية كبيرة، في الوسط الثقافي العراقي حينذاك، ففي الصحيفة كان يعمل الشعراء ألفريد سمعان ويوسف الصايغ وسعدي يوسف. من هنا جاء الترحيب بنصوصنا، والتف اللمعان حول أسمائنا، في الآن ذاته نشرت الجريدة لشعراء كثيرين غيرنا، كانوا يقيمون في مناطق أخرى من بغداد، وآخرين من المحافظاتالعراقية، ونالوا كما نلنا نحن، قسطاً من الشهرة وتسليط الضوء، وبدء المشوار مع الثقافة الأدبية العراقية. لم يكن يتوقع صاحب قصيدة «الأسلحة» الشاعر خليل الأسدي، أن ما كتبه في أول قصيدة منشورة له، سيتحقق واقعياً وعلى نحو مشؤوم بعد عقدين من الزمن، لتقوم الحرب العراقية - الإيرانية، ويُجنَّد خليل الأسدي مبدع «تراتيل بدائية « و « قصائد حب « فيصاب حينها في الحرب، وتعطب ذراعه اليسرى، وكان الرب ربما يقف الى جابنه، حين لم تُصَبْ ذراعه اليمنى، تلك التي كان يعمل بها مصحِّحاً في الصحف العراقية، حتى أيامه الأخيرة، قبل انزوائه المؤلم بناحية «المحمودية» في منزل شقيقته هناك، بعد أن فقد عمله، ليعيش بوهيمياً، يتمتَّع بالخيال، منزوياً ومنطوياً على أحلامه، ومتعته التي كان يجدها في متوالية الكأس اليومي، ما عجّل في رسم خاتمته التراجيدية، ثم الرحيل المبكر عن ستة وستين عاماً، وحيداً، معزولاً ومعوزاً، في زمن اللصوص الذين يكدّسون المليارات، عبر نهب أموال الشعب العراقي، مال خليل الأسدي ومن شابهه في درجة الرفعة.