ليست مهمة الشاعر أدونيس أن يشرح أسباب انغماسه في الفن وشغفه بفن الكتاب وما اقترفته يداه من الجمال المتمثل في صورية غرافيكية قوامها بحور الشعر الممزوجة بعصارات لون وبقع ضوء وأحبار ورقع صغيرة مدثرة بأنواع من الملامس. فسِرُّ أدونيس هو كيف يبوح لنفسه، كيف يَرِدُ إلى نبع إيحاءاته، بل كيف يقرأ ويحلم ويفكر ويبتكر مواده وخاماته وكيف ينفخ على بياض الورق ألوانه كي يعطيها شيئاً من مِزاجه ودعاباته ولهوه وكثيراً من هواء حُريّته، وكيف ينقّب في جيولوجيا ذاكرة الشعراء العرب القدامى عن جزر نائية، عن لغةٍ فيها الجمال والنسق وأحوال الهوى لكأنها أفياء وحدائق وسراب، وكيف يضع يده على لُقى كأنها لم تُكتشف من قبل، فتنبثق من بين أنامله العبارات التي يخطها بيمينه قبل أن يذيلها بأسماء شعرائها. فهو إن كتب القصائد لا ليحتفي بها ويزيّن قلبها ومآقيها، بل ليفكك صمتها وجمودها ويضعها في مهب التجريب بين لصق وتلطيخ وضربات فرشاة وسقسقة للون ونثر للهوامشٍ الآتية من أشياء الحياة اليومية. كأن ثمة ناراً داخلية تندلع وتمضي إلى قدرها في صورة الفضاء الموشوم بالعبارات والطلاسم، فإما أن تحجبه بظلام ما قبل الفجر وتغطيه، أو تفتح نهاره على بقع وبياض نور مبهم آت من نوافذ المخيلة وشموس الشرق وفلسفة الوجود ونبض الارتجال. كل لوحة من لوحات أدونيس هي صورة مصغرة عن عالمه الذي لا يشبه شيئاً سواه، فالفن له ليس سوى احتفال بالشعر أو امتداد له، ولكن في صورة أخرى. سلالات اللغة هكذا يستطيع الشعر أن يرى صورته الثانية من خلال مرآة الشاعر. مرآة وحيدة ولكنها تعيدنا إلى المكان الذي جئنا منه، لأنها تحوي مخيلتنا الجماعية عن سلالات اللغة والمتعارف والغريب، هكذا يعود الخطاب البصري لدى أدونيس إلى منطلقاته البدئية، كما تعود اللغة المجردة إلى نواميسها الأولى أو أصولها وجذورها في مهد التاريخ ككتابة تصويرية شاخصة للبصر. والشعر بالنسبة إلى أدونيس ماء الوجود والفن إناؤه، حيث الخطاب البصري يرى البدائي والقديم يتصالح والمعاصر. فالفن هو أن تجعل اللامرئي مرئياً، وفق بول كلي P.Klee، أما الرؤية فهي انفتاح على الأشياء أو عين حضور الأشياء ذاتها، وإنها ليست نمطاً من التفكير، إنما هي مجال من مجالات الجسد كاللمس والإحساس... والفن هو نتيجة احتكاك الفنان بعالمه، وهو يُعير جسده للعالم محولاً العالم إلى رؤية»، وفق تعبير موريس مرلو بونتي في كتابه «المرئي واللامرئي». بدأ أدونيس الفن من حيث انتهى إليه فنانو الحداثة في الغرب، وهو أنه على الفنان أن ينسى كل ما تعلمه في المعاهد والمتاحف، ليبدأ وينظر إلى عالم الأشياء والأجسام البسيطة مهما كانت هامشية، على أنها مواد قابلة لأن تأخذ وظائف جمالية إذا وُضعت في سياقات جديدة. فالكولاج أو التلصيق الذي دعاه أدونيس «رقيم»- من قبيل الشغف بمسميّات فصيحة تعبّر عن مضمون قديم بحلة معاصرة- ليس سوى بحث عن طرائق لتهجين الشعر وإخراجه من زمنه الشفوي إلى حيزه البصري. القراءة لدى أدونيس هي أول خطوة في الإبداع أو جزء من آلية الإنتاج على حد تعبير غاستون باشلار، أما كتابة القصيدة ففيها إمتاع ومؤانسة، بسبب شغفه ليس بالخط العربي كفن تقليدي، بل بمقاربته الخاصة له وطريقته في التفنن به والتلاعب بحروف المد وحركات الانحناء والتكوير، فيبدو خط أدونيس كرسمٍ بحد ذاته، ذي إيقاع نغميّ نابع من بداهة قريحته ومن ميراث العلاقة الجارية بين حفيف قلمه وذاكرة الورق، وهي علاقة عميقة الجذور تعبّر عن انتماء الشاعر وفكره وتفرده وثقافته، إن لم نقل عن كينونته الداخلية وأناه الطاغية. هذه الأنا تبدأ بحرف الألف التي يخطّها أدونيس مائلةً كرمح من رماح المخيلة وهي تشق مسافاتها في فضاء مأهول بالرموز والإشارات، وهي أول حرف من اسم الشاعر المقرون أيضاً بحرف A بالفرنسية. غير أن التنميق في الكتابة يتقلب في مراحل أدونيس، ما بين دينامية الحروف اليابانية أحياناً والكتابة الأوتوماتيكية اللامقروءة التي تشابه الكتابة المسمارية المدونة على الرُّقم الطينية، وهي تجربة تلامس بانفعاليتها وسرعتها كتابات الشاعر هنري ميشو التي نفذها تحت وطأة الميسكالين. ظلال وأجسام ولئن كان الحبر هو مداده الأثير، فإن البقع التي تنبثق من العدم سرعان ما تتفشى ويتوسع مداها بمسامها الإسفنجية وتتناثر في فضاء قصائد أدونيس، وكأنها تولد لتوها أمام عيون ناظريها على أنها ظلال ناقصة لأجسام غائبة. من التجريد إلى التشخيص والعكس بالعكس، تلك هي جمالية التحكّم بالعشوائية او المصادفات اللذيذة التي تحدَّث عن قوة الهاماتها السورياليون في إذكائها للخيالات والأوهام واللامنطق واللامحدود، لاسيما وانهم ابتكروا خامات وطرائق جديدة في صب اللون أو طيه بين دفتي الحامل، لإدخال العين إلى شعاب مساحة تشبه غابات متشابكة في نباتها وأغصانها. وأدونيس يملك بالفطرة هذه الهبة التي تتراقص فيها الريشة كي تحيل البقع الصماء إلى كائنات تخرج من كهوفها المظلمة، وفرسان ونصالٍ وعتبات موصدة وملوك وقبائل وأبواب تفتح على المجهول. وثمة دوماً بحث عن التشخيص بين ثنايا المبهم، عن طقوس وتبصيمات طفولة ضائعة تظهر عن غير عمد. هكذا يصل الرحيل إلى تخوم أخرى، إلى سفر هو اكتشاف الطاقة الخفية للاوعي، فإن عمل أدونيس سواء كان رسماً على ورق أو رقيماً من عمل تلصيقيّ إلى ذروته الفنية ببساطته القائمة على قوة التصميم والحدْس وابتكار الأشكال والتنسيق بين العناصر في فضاء اللوحة التي تُدهش وتصدم بأسرارها وطلاسمها التي تخرج عن تجارب الرسامين لكي ترينا ما لا يراه سوى الشعراء. الشاعر أدونيس الذي وجد في الفن متنفساً للشعر، عاشه عن قرب من خلال صداقته لكبار الفنانين العرب الذين كتب عنهم وقدم لتجاربهم فاتحاً آفاقاً جديدة في قراءة اعمالهم التشكيلية، التي تركت بصماتها لاحقاً على توجّهه الفني، وكثير منهم اسلتهموا قصائده في نتاجهم الطباعي، إذ أن «الشاعر يُلهم أكثر مما يستلهِم» على حد قول الشاعر بول إيلوار، وأدونيس الذي لطالما كان يُخفي تجاربه الفنية بعيداً من الأعين لم يجاهر بها إلا في اواخر عام 2000، بعد تشجيع من الناشر الفرنسي ميشال كامو، الذي وجد في رسومه لمعانات وإشراقات فنية غير مألوفة إلا في تجارب استثنائية مرت في تاريخ العلاقة التفاعلية بين الشعر والفن. هكذا أخذت مسيرة أدونيس تنمو وتحلّق بأجنحة لغة الضاد في فضاء الفن، فوصل خطابه البصري الى ذائقة الفرنسيين خصوصاً والأوروبيين عموماً، عبر المعارض التي أقامها طوال أكثر من 15 عاماً، حتى أضحى اسمه ملازماً لتجارب الجماعات الفنية التي اقترن فيها الشعر بالفن والرسم بالكلمة، لا سيما في المهرجانات الفنية والمعارض الجماعية، التي كان آخرها المعرض الذي أقيم في روما قبل أن ينتقل إلى ميلانو (Palazzo real) تحت عنوان كلام الفنانين (Parole d'artista). بعد أن طوى مراحل عديدة يقف أدونيس على منصة الفن المعاصر، على ضفاف تتقاطع عندها الثقافات وتمتزج ما بين مداد الشرق العربي والانفتاح الفكري على الغرب.