ببضع كلمات إنكليزية مكسرة وابتسامات متبادلة وإشارات، يتفاهم عامل البناء الصيني تسو مع زميله السوداني فرانسيس، وهما يضعان اللمسات النهائية على واجهة أحدث أمارات الوجود الصيني المتزايد في جنوب السودان: فندق جوهرة الشرق. وفي كل حي من أحياء مدينة جوبا، عاصمة الجنوب، تطالع الزائر علامة من علامات هذا الوجود: قرية الأخوة الصينية السكنية، فندق بكين، عيادة يي ليان تانغ الصينية. ورغم أن الوجود الصيني في أفريقيا جنوب الصحراء ليس جديداً، إلا أنه يكتسي هنا طابعاً خاصاً، نظراً إلى قلق بكين على مستقبل هيمنتها، بعد الانفصال، على نحو نصف نفط الجنوب الذي يشكل 85 في المئة من احتياط السودان، بموجب عقود وقعتها مع الخرطوم، خصوصاً أن حكومة الجنوب بدأت تيمم وجهها غرباً، كما أن جنوبيين كثيرين يعتبرون الصين حليفاً للشمال ضدهم. لكن وزير التعاون الإقليمي (الخارجية) في حكومة الجنوب دينق ألور يؤكد ل «الحياة» أن «لا مشكلة لنا مع الصين حالياً واستثماراتها ستستمر». ويقول: «مصدر قلقنا الرئيس هو المنفعة الاقتصادية، لكنهم فهموا الآن أننا الجهة المالكة للنفط». ورأى أن «الصين بدأت تدرك حقيقة الوضع الآن، والتعامل معه بدعوة مسؤولين من الحركة الشعبية لتحرير السودان وحكومة الجنوب إلى بكين أكثر من مرة للنقاش وبدء حوار. هم يجهزون أنفسهم لتغير الجهة التي تدير النفط». وشدد على أن «النفط سيدار من هنا بعد تموز (يوليو) المقبل (نهاية الفترة الانتقالية في حال اختار الجنوبيون الانفصال). وعلى الصينيين التعاطي مع هذا الواقع، وهذا ما يفعلونه». بيد أن هذا النشاط المحموم في الجنوب لا يقتصر على الصينيين، بل تشاركهم فيه دول أفريقية وأخرى غربية تعمل لضمان موطئ قدم لنفوذها، سعياً إلى حماية مصالحها السياسية والاقتصادية. وتشهد جوبا سباقاً على توسيع البعثات الديبلوماسية وبرامج المساعدات الأجنبية. ويشكل الجنوب أرضاً خصبة للأطراف الطامحة في تعزيز نفوذها بسبب غياب البنى التحتية، سواء الطرق او المدارس او المستشفيات. وبين أبرز الأطراف الفاعلة في الجنوب، بشهادة مسؤولين جنوبيين، تأتي القاهرة المشغولة بأمنها المائي المهدد بتمرد دول منابع النيل على ما تعتبره «حقوقها التاريخية».فكانت مصر أول دولة تفتتح قنصلية في جوبا بعد توقيع اتفاق السلام العام 2005، كما أنها قدمت مساعدات تقدر بأكثر من 300 مليون دولار في مجالات مختلفة، من عيادة طبية وإنشاء مدارس في ثلاث ولايات ومشاريع الموارد المائية ومد الكهرباء، وصولاً إلى تأسيس فرع لجامعة الإسكندرية في ولاية واراب يبدأ عمله نهاية هذا العام وتدريب قيادات من الشرطة. ويقر القنصل المصري في جوبا مؤيد الضلعي بأن هذا التوجه يتعلق «في جزء منه» بملف مياه النيل. ويقول ل «الحياة»: «جنوب السودان ضمن أولوياتنا الاستراتيجية، والسودان كله هو العمق الاستراتيجي المصري وامتداده». وتنشط دول غربية بينها الولاياتالمتحدة التي تعتبر الحليف الأكبر لحكومة الجنوب، وفرنسا التي أبدت اهتماماً بامتيازات مستقبلية في حقول النفط لشركة «توتال». وتتمتع دول مجاورة للجنوب مثل إثيوبيا وكينيا وأوغندا بنفوذ تقليدي تعززه امتدادات قبلية واعتماد اقتصادي ودعم ل «الجيش الشعبي لتحرير السودان» ابان الحرب، لكنها تسعى إلى تثبيت هذا النفوذ لتأمين نفسها ضد أي انفلات مستقبلي قد يسببه تصاعد المواجهات بين القبائل الجنوبية الممتدة عبر الحدود. وتقدم هذه الدول مساعدات فنية لحكومة الجنوب، خصوصاً في مجال التدريب، فيما تثير العلاقة المقبلة مع اسرائيل، والتي يعززها وجود استثمارات إسرائيلية في الجنوب معظمها بغطاءات أفريقية، قلقاً عربياً. علناً، يرد المسؤولون الجنوبيون على هذه المخاوف بتأكيد عدم وجود علاقات رسمية حتى الآن، وان الحكومة الجديدة ستبت في هذا الموضوع بعد الانفصال. لكن مسؤولا جنوبيا بارزا تحدث إلى «الحياة» طالباً عدم كشف اسمه، أكد أن حكومته ستقيم علاقات مع إسرائيل بعد الانفصال، وإن شدد على أن هذه العلاقات «لن تكون موجهة ضد أحد، خصوصاً الدول العربية... لا مشكلة لنا مع إسرائيل، كما أن لنا رعايا في أراضيها نريد رعاية مصالحهم... مصر، وهي كبرى الدول العربية لديها علاقات مع إسرائيل، وكذلك الأردن وقطر. هل تريدوننا أن نكون أكثر عروبة منكم؟».