لم يتخلف زعيم، أو مسؤول أو حزبي أو مثقف أو اعلامي في الدول العربية، عن المشاركة في قافلة التبرؤ من جريمة الاعتداء على كنيسة القديسين في الاسكندرية، وقبلها كنيسة سيدة النجاة في بغداد، من دون أن يقلل ذلك في شيء من الخطر من تكرارها في أي يوم وفي أي بقعة من الأرض العربية (وحتى الاسلامية)، وربما بأسلوب أكثر بشاعة. بل يجوز القول ان حجم قافلة التنديد والبراءة هذه هو اعتراف بالمسؤولية عن الجريمة في حد ذاتها، والجرائم الأخرى، وان بصورة متأخرة جداً، وربما بعد فوات الأوان. ذلك أن ما شهدته الإسكندرية وبغداد، وقبلهما بيروت وغيرها من المدن اللبنانية على مدى سنوات، ليس حدثاً فريداً أو منعزلاً عن سلسلة الحوادث المماثلة التي ضربت المنطقة خلال الأعوام الماضية وجعلت من الجريمتين أشبه بعمليتين انتحاريتين (قد يتبرع البعض بتسميتهما استشهاديتين!) لا علاقة للثقافة العامة التي سادت المنطقة أخيراً، وما تزال حتى الآن، بهما. ما حدث هو محصلة سياسات، اقتصادية وفكرية وثقافية، لم يكن همها طوال الفترة السابقة، وعلى مدى عقود، الا الصراع على السلطة... وفي سياقه «تشريع» التلاعب بغرائز الناس وحساسياتهم العشائرية والعائلية والطائفية والمذهبية والعرقية، خدمة من المتصارعين لأهدافهم ومصالحهم الشخصية. في سياق ذلك، وعلى المسار نفسه في المنطقة، كان تطييف السياسة (وفي المرحلة الأخيرة مَذْهَبَتُها) في بلد مثل لبنان، كان يفترض أن يشكل نموذجاً للتعايش والتفاعل بين مكوناته الطائفية والمذهبية، ليس في المنطقة العربية فقط وإنما في ما هو أبعد منها على امتداد العالم الاسلامي كله. واذا كان اللبنانيون (عفواً، طبقتهم السياسية) يتحملون المسؤولية الأكبر عما حل ببلدهم وبنسيجه الاجتماعي في العقود السابقة، منذ زوال السلطنة العثمانية ثم الاستقلال عن فرنسا، فليس «انتصارالأشقاء» لهم في الأنظمة العربية القيقة، تطبيقاً للقاعدة التي تقول «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، بريئاً بدوره من هذه المسؤولية. وفي السياق ذاته، كانت أنواع أنظمة الاستبداد والقمع وضرب الحريات، أولاً تحت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» بعد انشاء دولة اسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، ثم ثانياً باسم «حماية الأنظمة»، باعتبار أن هدف اسرائيل من حرب العام 1967 مثلاً كان إسقاط واحد أو اثنين من هذه الأنظمة، وكان معها ما تعرفه شعوب المنطقة من صنوف التمييز بين «أهل النظام» من الوطنيين والتقدميين والثوريين... إلخ، والمعادين لهذا النظام، الذين غالباً ما يكونون من عشيرة أخرى، أو منطقة أخرى، أو طائفة أخرى، أو مذهب آخر. وأياً كانت التبريرات، وهي في المنطقة تحمل دائماً اسم «المؤامرة» الأجنبية أو حتى المحلية، فالمحصلة كانت ما نشهده الآن في مصر والعراق والسودان واليمن والصومال (فضلاً عن لبنان طبعاً) من طوائف ومذاهب وأعراق تتعامل الواحدة منها مع الأخرى ذبحاً وقتلاً على الهوية في معظم الأحيان، وتهجيراً قسرياً في الداخل أو الى العالم الواسع في أحيان أخرى. ومن هو الذي فتح أبواب جهنم هذه في بلده، وتالياً على مساحة المنطقة كلها، إما لدوافعه الخاصة بإشغال الشعب بعضه ببعض، أو لانشغاله هو عن حاجاته الحياتية ومطالبه بالعيش الكريم في وطن لجميع أبنائه، وتوهم أنه بذلك إنما يحمي سلطته ونظام حكمه من السقوط؟ هل نسي المصريون، مثلاً، أن أحد أهم أسلحة الرئيس السابق أنور السادات في حربه على الناصريين كان اعلان نفسه «الرئيس المؤمن» من جهة، والإفساح في المجال لعمل الجماعات الاسلامية على أنواعها من جهة أخرى، وأن حرية حركة هذه التنظيمات وتغطيتها من قبل السادات نفسه هي التي ساعدتها في نهاية المطاف على اغتياله؟ وهل نسي العراقيون، بدورهم، أن الرئيس السابق صدام حسين هو الذي خط بيده كلمة «الله أكبر» على العلم العراقي، في أعقاب انتهاء حربه مع ايران وغزوه الكويت، فضلاً عن أنه – كما نشر بعد إعدامه في المدة الأخيرة – كان قد عمد في أثناء رئاسته الى كتابة القرآن الكريم كله بدمه؟ وهل كان السودانيون يتوقعون نهاية أخرى لوطنهم، غير انفصال جنوبه عن الشمال وإنشاء دولة مستقلة فيه، عندما قرر رئيس دولتهم عمر البشير قبل سنوات عديدة تطبيق الشريعة الاسلامية على مستوى السودان كله، متجاهلاً (أو متحدياً في الواقع) وجود أقليات كبيرة العدد ومتنوعة، مسيحية ووثنية وغيرها، في الشطرين الجنوبي والغربي من هذا البلد، وحتى في الشطر الشمالي نفسه؟ وهل، اذا كانت هذه هي الحال في دول المنطقة هذه، يمكن وقف كرة الثلج عند حدود التنوع الطائفي بين الطائفتين الكبريين (الاسلام والمسيحية) في لبنان ومصر والعراق والسودان، أو التعدد العرقي بين العرب والأكراد، وبينهم من ناحية وبين الأشوريين والكلدان في العراق من ناحية ثانية، أو بين العرب والأمازيغيين في كل من الجزائر والمغرب وتونس، أو حتى بين السنة والشيعة والزيديين والإباضيين في هذه البلدان، ومعها أيضاً سلطنة عمان واليمن وغيرهما؟ واقع الحال، أن الأنظمة العربية لم تفشل فقط في حل مشكلات بلدانها لجهة التنمية والتعليم والصحة والأمن الغذائي، فضلاً عن الوطني، ولجهة الحداثة أو ما بعد الحداثة، كما يأخذ عليها بعض المثقفين، بل انها زجت المنطقة وشعوبها في أتون حروب أهلية وطائفية ومذهبية لا تبدو ظاهرة على السطح الآن إلا بداياتُها الأولى. ليس الاسلام، والتدين الاسلامي تحديداً، جديدين في المنطقة، وفي بلدان مثل مصر والعراق والسودان، كما أن التطرف بدوره، وعلى أنواعه، ليس جديداً، لا في هذه البلدان بالذات ولا في غيرها على مساحة المنطقة. الجديد هو اعتماد طريقة الأنظمة نفسها في ممارسة الاستبداد، اغتيالاً وقمعاً وقتلاً للمعارضين، أسلوباً للتعبير عن هذا النوع من التدين أو ذاك الطراز من التطرف. لكنها «المؤامرة الخارجية»، تقول هذه الأنظمة، في تبرير موقفها مما يحدث، تماماً كما كانت - وما تزال - تفعل في تبرير عجزها وتقصيرها في الأمور الأخرى. ومن أي زاوية يُنظر الى ما يقال، في سياق التبرير، وحتى الى ما يمكن أن تفعله الأنظمة تحت عنوان وقف الانهيار في جسد المجتمع العربي، فالصورة لا تحتاج الى المزيد من الشرح: أنظمة حكم تفشل في القيام بمهامها، وتفعل عكس هذه المهام، كما في ركوب مركب الطوائف وإثارة بعضها ضد البعض الآخر، وتفشل بعد ذلك كله في تبرير فشلها هنا وهناك. * كاتب وصحافي لبناني.