أمضى أنطوني جوزيف ليلته، مع مئات آخرين، أمام مركز اقتراع في شرق مدينة جوبا، عاصمة جنوب السودان، بانتظار بدء التصويت في استفتاء تقرير مصير الإقليم الذي بدأ أمس، بعدما «حالت حماستي الشديدة بيني وبين النوم»، كما قال ل «الحياة». واستبق شمال السودان، حيث كان الإقبال ضعيفاً على مراكز الإقتراع، النتيجة المتوقعة للإستفتاء بإعداد خريطة جديدة للبلاد تخلو من إقليمالجنوب، في إشارة إلى تيقّن حكومة الرئيس عمر البشير من أن الجنوبيين سيختارون «الطلاق» مع الشماليين. ومنذ ساعات الصباح الأولى، انتظم مئات الآلاف من الجنوبيين الذين ارتدى معظمهم أبهى ملابسه، أمام مراكز التصويت في طوابير تجاوز طول أحدها كيلومتراً عند ساحة ضريح مؤسس «الحركة الشعبية لتحرير السودان» جون قرنق، رغم أن الاقتراع مستمر حتى السبت المقبل. وقال جوزيف الذي كان يرتدي حُلة رسمية كاملة ورابطة عنق: «جئت إلى هنا في الثانية صباحاً. أنا صاحب قضية وسأصوت للانفصال ولاسترداد حريتي من الاستعمار الداخلي. انتظرنا هذا منذ 1956، ولا يمكنني التأخر. هل رأيت عريساً يتأخر عن عروسه؟». وخلف هذا الموظف الأربعيني، كان عشرات من أبناء مختلف القبائل التي تشكل الجنوب يستعدون لوصول رئيس حكومة الجنوب سلفاكير ميارديت لإطلاق الاستفتاء، بتأدية رقصات محاربين تقليدية وهم يلتحفون جلود النمور ويلوحون برماحهم، فيما تتردد عبر مكبرات الصوت إيقاعات أفريقية. لكن محارباً آخر كان يسير متكئاً على عصى بعد الإدلاء بصوته مرتدياً زي «الجيش الشعبي لتحرير السودان» الذي يحكم الجنوب. ويقول اروك امور وهو يرفع اصبعه المغطى بالحبر: «اصيبت ساقي برصاصة خلال الحرب في 1987، والآن انتقمت بصوتي بعد 23 عاماً». وأضاف بلغة قبيلة الدينكا التي كان يترجمها مرافقه: «اليوم يمكنني أن ارتاح. هذا آخر يوم في معاناتي». ورفع معظم المنتظرين في الطوابير أعلام الجنوب، لكن بعضهم فضل ارتداءها. وقال مارتن ماين الذي فصل لهذا اليوم خصوصاً ثوباً بألوان العلم: «لا بد من ان يفيقوا (سكان الشمال) من أوهامهم. لم نكن يوماً سوداناً واحداً، ولن نكون. 99 في المئة يؤيدون الانفصال». وفي أحد طوابير النساء التي كانت أطول قليلاً من صفوف الرجال في غالبية المراكز التي زارتها «الحياة»، شاركت الشابة اليزابيث ماجوك بحماسة بالغة أخريات في إطلاق الزغاريد ابتهاجاً ببدء عملية التصويت. وقالت رداً على سؤال عن سبب حماستها: «يا إلهي... هذا سيحدد تاريخ السودان ومستقبل الأجيال المقبلة. أعرف أن هذا اليوم سيغير التاريخ، وأريد أن أكون جزءاً منه». لكن هذا الإقبال «التاريخي» كانت له سلبياته، إذ تسبب بفوضى اربكت موظفي المفوضية في غالبية المراكز، ما أدى إلى بقاء كثيرين في لهيب شمس جوبا الحارقة لساعات من دون الإدلاء بأصواتهم. وقال مسؤول الاقتراع الشاب شول ديفيد وهو يحاول احتواء غضب امرأة عجوز وجهت إلى الطابور الخطأ: «هذه مشاكل بسيطة. والناس متعاونون. هم يفهمون أن هذا اليوم مهم لنا جميعاً». وانتشر عشرات الشبان من منظمات أهلية بين الناخبين لمحاولة تطويق هذه الفوضى، وهم يرتدون قمصاناً قطنية كتب عليها: «الحلم يتحقق. نفتقدك يا جون»، في إشارة إلى مؤسس «الحركة الشعبية». وأكد مسؤول بعثة مراقبة دولية ل «الحياة» وقوع «تجاوزات بسيطة لا تؤثر على مجرى العملية». غير أن هذه الأجواء الاحتفالية عكرتها اشتباكات وقعت في ولاية الوحدة الجنوبية مع ميليشيا يقودها جنرال منشق عن «الجيش الشعبي» تتهم حكومة الجنوبالخرطوم بدعمه، واندلاع أعمال عنف في منطقة ابيي الغنية بالنفط المتنازع عليها بين الشمال والجنوب، أدت إلى مقتل وجرح عشرات الأشخاص.