على رغم الدور الكبير الذي اضطلع به محمَّد رشيد رضا في سياق تدوين سيرة الإمام محمّد عبده (ت 1905) والتأريخ لحياته؛ فإنّ جانباً كبيراً من كتابات الإمام ومقالاته لم يتم تضمينها في أعمال رشيد رضا، فضلاً عن أن تاريخ الأستاذ الإمام لم يخرج للناس إلا في سنة 1931؛ أي بعد وفاته بستة وعشرين عاماً، وقبل وفاة رشيد رضا (ت 1936) بخمسة أعوام. وقد حال ذلك دون الإلمام بكثير مما كتبه الإمام في صحف ومجلات «الوقائع»، «المنار»، «العروة الوثقى»، و»الأهرام» وغير ذلك، ناهيك بإدماج رشيد رضا سيرته الذاتية ضمن سيرة الأستاذ الإمام، كأنه يضع تاريخاً لنفسه، فلا ترى فصلاً ولا مبحثاً عن الإمام إلا وقد أشرك رشيد رضا نفسه فيه! وبغض النظر عن صحة الأبيات التي أوردها رشيد رضا، وساقها على لسان الإمام قبيل وفاته، بل وهو على فراش الموت، والتي يدعو فيها الى أن يجعل اللَّه رشيد رضا خلَفاً له على دين الإسلام، فيقول في إحداها: «فبارك على الإسلام وارزقه مرشداً (رشيداً) يُضيء النّهج والليل قاتم»؛ وما إذا كانت هذه الأبيات فعلاً للإمام، أم أن رشيد رضا اختلقها - فإن الأخير قد استولى - وفق كثر من الباحثين- على الكثير من آراء أستاذه، واقتنع بأن له الحق في طبعها وشرحها والزيادة عليها دون أحد غيره من تلامذة الإمام. وفي الأحوال كلها، فإن مقالتنا هذه تتغيّا الإبانةَ عن حدود مفهوم المواطنة في فكر الإمام محمّد عبده؛ كما عبر عنه في كتاباته السياسية بصفة خاصة، لا سيما أن رشيد رضا حاول أن يدافع عن مشاركته في الثورة العرابية باعتباره «موالياً» لأسرة محمد علي باشا، ومدافعاً عن الخديوي توفيق، ومنتقداً لأحمد عرابي وصحبه! وضمن هذا السياق، انبرى رشيد رضا في مقالة له في مجلة «المنار»، للحديث عما سماه «الفتنة العرابية»، مؤكّداً أن أستاذه كان ينتقد أعمال عرابي وتهوره في جريدة «الوقائع» الرسمية في القسم الأدبي، على حين ترتعد فرائص قصر الخديوي من عرابي! وكما لاحظ طاهر الطناحي، فإنّ الثورة التي يتحدث عنها رشيد رضا لم تكن آنذاك، قد بدأت جدياً أو شاركت فيها الأمة مشاركة فعلية! فقد كان عرابي لا يزال برتبة أميرالاي، الى درجة أنه بعد سقوط وزارة رياض باشا وتولّي محمد شريف باشا الوزارة، نُقِل هو وفرقته إلى رأس الوادي في محافظة الشرقية، وكانت الثورة لا تزال في طور التكوين. على أن اشتغال الإمام بالأمور الوطنية - سياسية كانت أم اجتماعية - كان سابقاً لاندلاع ثورة عرابي بحكم أنه كان من قادة الرأي والكتّاب في مصر، وبحكم رئاسته لجريدة «الوقائع المصرية». فقد عُين الإمام محرّراً فيها سنة 1879، وكتب منذ ذلك الحين مجموعة كبيرة من المقالات الوطنية والأدبية والسياسية والدينية، تصب جميعاً في مشروع الإصلاح الديني ومحاربة الاستبداد، ومجابهة التقليد، والدفاع عن حقوق الفقراء والمستضعفين، وانتقاد وضعية الفلاح والضرائب المفروضة عليه، وهو ما تعبّر عنه عناوين مقالاته في تلك الحقبة، ومن بينها: «خامة الرشوة»، «القوة والقانون»، «ما هو الفقر الحقيقي في البلاد؟»، «الشورى وولي الأمر»، «الشورى والقانون» ... إلى غير ذلك. وقد خص الإمام مسألة المواطنة والوطنية بكثير من عنايته، فكتب مقالاً بتاريخ 28 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1881 - قبل اندلاع الثورة العرابية - عن «الحياة السياسية والوطن والوطنية»، قال فيه إن الوطن في اللغة يعني محل الإنسان مطلقاً، فهو السكن بمعنى: استوطن القوم هذه الأرض وتوطنوها، أي اتخذوها سكناً. والوطن عند أهل السياسة مكانُك الذي تُنسَب إليه ويُحفظ حقُّك فيه، وتعلم حقّه عليك، وتأمن فيه على نفسك وآلك ومالك. فلا وطن إلا مع الحرية، ولا وطن في حالة الاستبداد. وكان حد الوطن عند الرومانيين المكان الذي فيه للمرء حقوق وواجبات سياسية. ثم يوضّح الإمام أن هذا الحد الذي اتفق في شأنه الرومانيون لا يتعارض مع قولهم: «لا وطن من دون الحرية»، وذلك لأن الحرية تعني: حق القيام بالواجب المعلوم، فإن لم توجد الحرية فلا وطن لانتفاء الحقوق والواجبات السياسية. فالواجب والحق - في رأي الإمام - هما شعار الأوطان التي تُفتدى بالأموال والأبدان، وتُقدَّم على الأهل والخلان، ويبلغ حبها في النفوس الزكية مقام الوجد والهيمان. أما السكن الذي لا حق فيه للساكن، ولا يأمن فيه على روحه وماله، فغاية القول في تعريفه أنه مأوى العاجز! ومستقرّ من لا يجد إلى غيره سبيلاً، فإن عظم فلا يسرّ وإن صغُر فلا يُساء. وينقل الإمام عن لابروير، الحكيم الفرنسي، قوله: «ما الفائدة من أن يكون وطني عظيماً كبيراً، إن كنتُ فيه حزيناً حقيراً أعيش في الذل والشقاء خائفاً أسيراً؟!». ومن ثمّ، فإنّ النسبة أو العلاقة ما بين «الوطن» و «المواطن» إنما هي عبارة عن صلة مناطة بأهداب الشرف الذاتي، فالمواطن يغار على الوطن ويذود عنه كما يذود عن والده الذي ينتمي إليه، وإن كان سيئ الخلُق شديداً عليه! فقول المصري: «أنا مصري» يعدّ من موجبات غيرته على مصر، ففي الوطن من موجبات الحب والحرص والغيرة ثلاثة أشياء تشبه أن تكون حدوداً: أولها، السكن الذي فيه الغذاء والوقاء والأهل والولد. ثانيها: أنه مكان الحقوق والواجبات التي هي مدار الحياة السياسية، وهما حسّيان ظاهريان. ثالثها، أنه موضع النسبة التي يعلو بها الإنسان، ويعز أو يسفل. وهذه الأعمدة الثلاثة تمثّل في رأي الإمام، حدود «المواطنة» ومعنى «الوطن»، فإذا تقررت ورسخت في الأذهان وجب على المواطن «حب الوطن من كل هذه الوجوه؛ فهو سكنه الذي يأكل فيه هنيئاً، ويشرب مريئاً، ويبيت فيه أميناً، وهو مقامه الذي يُنسب إليه ولا يجد في النسبة إليه عاراً، ولا يخاف تعبيراً، وهو الآن موضع حقوقه وواجباته». وكما هو ملاحظ، فإن الإمام لم يعمد في التعبير عن مفهوم «المواطنة» إلى استخدام لغة دينية، أو ربط المفهوم بالدين. فالإنسان - كما كتب الإمام في مقال له بعنوان «الوطنية» في جريدة «الوقائع المصرية» بتاريخ 6 آذار (مارس) 1881- «لا ينال الشرف الإنسانيّ والسعادة الحقيقية والثروة الدائمة والنعيم الثابت؛ إلا إذا صلح حال وطنه، فتقدّم أبناؤه، وتحلّت نفوسهم بالمعارف وصفات الكمال، فيأخذ كلُّ واحد حقّه، ويؤدّي الواجب عليه. إنْ بدت منفعة لأيٍّ منهم تضافر الكلُّ على جلبها، وإن ألمّت به ملمّة اتحدت قوى الجميع على إبعادها، فحينئذ يعمّ النفع جميع المواطنين، وتستتبُّ الأمنية، وتتّسع دائرة المنافع المستديمة، بخلاف ما إذا فسد حال الوطن واختلت شؤون ذويه، فإنّ كلّ واحد منهم يقف عقبة في طريق أخيه، ويسدّ أبواب الخير عليه، ولا يتأخّر في إيقاع المكروه به متى تخيل في ذلك منفعة خصوصية تعود عليه». وهكذا يتراوح مفهوم المواطنة عند الإمام ما بين مفهومي: الحق والواجب. فمن شأن التوازن في العلاقة بين الوطن والمواطن، أن يضمن صلاح كلٍّ منهما، وما الفساد والاستبداد إلا نتيحة - أو بالأحرى مقدّمة - لاختلال العلاقة بينهما. ومدار هذه العلاقة يقوم في رأي الإمام على «المحبة»، وهو ما صرّح به في مقالة له عن «الوطنية» نشرها في جريدة «الوقائع» أيضاً بتاريخ 21 آذار سنة 1881، حين قال: «إنّما الوطنية أن تخلص المحبّة للوطن إخلاصاً ينبعث منه السعي بكامل الجهد في التماس ما يعود عليه بالتقدّم والنجاح، وليس الأثر إلا ما أفاد فائدة حقيقية تُوجب اعتدالاً في التصورات أو حسَناً من الأخلاق والعادات، أو صحّة في الأبدان أو عزّة للوطن وارتفاعاً لمقامه، فذلك ما يدعونه العقلاء وطنية، وهذا ما يعدونه أثراً، لا الألفاظ المحفوظة ذات المعاني المبتذلة المطروقة، ولا التأسُّف وهزّ الرؤوس والإكثار من التنهّدات التي ليست مُنبعثة عن داعية في القلب، ولا رنّة في الفؤاد تستوجب النهوض لإزالة الضرر والسعي من رفع الملمات». وفي الأخير: لقد كان الإمام يولي مسألة «الوطنية» و «المواطنة» عناية كبرى في أطوار حياته كلها، الثورية منها والإصلاحية. ففي طوره الثوري، كان - كشأن أستاذه جمال الدين الأفغاني - يؤمن بالشعب وطبقاته الكادحة وقدرات الجماهير في إطاحة قوى الاستعمار ومناهضة الاستبداد. أما في طوره الإصلاحي، فلم يكن الإمام مؤمناً بالثورة كطريق لتحقيق النهضة، وإنما كان يرى في التربية والتزكية والتعليم والاستنارة الفكرية السبيل الأمثل لبلوغ تلك الغاية. ومن هنا، كانت المواطنة تمثّل - في هذا الطور الأخير- جوهر وعماد المقاومة ضد النفوذ الأجنبي. وقد حدد لنا في هذا الطور بصفة خاصة، مفهومه عن «المواطنة»، وسلط الضوء على بروز عاطفة التعلُّق بالوطن، التي تعد مرادفاً للقومية، كما شنّ هجوماً حاداً ضد أولئك الذين يزعمون أن مصر لم تبلغ بعد طور «الوطنية»، فكتب يقول بعد الثورة العرابية: «ولقد كان بعض الناس يحاولون خلع الشّعار الوطني عن ذوي الحقوق والواجبات في مصر، وإلباسهم جميعاً لباس الجهالة والذلّ، لكن أبت الحوادث إلا أن تُثبت لنا وجوداً وطنياً، ورأياً عمومياً، ولو كره المبطلون».