عندما تتقاضى فاديا بدل أتعابها عن عملها في بيع المناديل أو تنظيف المنازل، تحرص على ترك مبلغ صغير لتدفعه أجرة الباص الذي يقلّها وأولادها كل يوم جمعة من مكان سكنها في حي السلم في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت إلى حديقة الصنائع الواقعة في قلب العاصمة. فالوضع المادي الصعب والضغوط التي تعيشها هذه اللاجئة التي أتت من اللاذقية منذ خمس سنوات جعل هذه الحديقة المتنفّس الوحيد المتاح بالنسبة لها للترفيه عن أولادها. وتعتبر فاديا أن زيارة هذا المكان هي أفضل ما تقوم به أو تقدّمه لأولادها بعد أسبوع متعب، وتقول: «هذا المكان بيفشلنا خلقنا (يروّح عنا ويخفف من همومنا)، فالأولاد في حاجة إلى الخروج من الضغط النفسي الذي يعيشونه على الأقل مرة كل أسبوع أو أسبوعين». علي وقَسوَرة ومحمد ثلاثة أصدقاء سوريين لا يتخطّى عمر الصبي منهم الخمس سنوات، يلعبون ويلهون أيضاً في حديقة الصنائع. يحب علي البحر أكثر من الحديقة «لأنه كبير جداً»، بينما يفضّل محمّد الحديقة ويخاف البحر لأنه «عم بيغرّق الناس». علي من الشام وقَسوَرة ومحمد من حلب، لكن الثلاثة ولدوا في لبنان وهم منذ وعيهم يتمشّون معاً بصحبة أهلهم نهاية كل أسبوع من منطقة الخندق الغميق الشعبية المحاذية لوسط بيروت إلى هذه الحديقة وأحياناً إلى شط البحر، المساحتين العامّتين الوحيدتين المتبقّيتين في بيروت بعد إعادة إغلاق حرش بيروت الذي لن يفتح أبوابه قبل الشهر المقبل على أقل تقدير. وتشهد حديقة الصنائع والبحر من شاطئ الرملة البيضاء حتى كورنيش عين المريسة زحمة شديدة أيام العطل، إذ يعتبرها ذوو الدخل المحدود ومنهم اللاجئون، المتنفّس الوحيد لهم للترفيه عن أنفسهم من دون تحمّل أي أعباء أو تكاليف مادية. تفريغ المشاعر السلبية ويؤكّد محمد أيوب، المدير التنفيذي لجمعية «نحن» التي تعنى بالمساحات العامة في لبنان، أهمية وجود أماكن عامة كهذه في بيروت والمناطق المحيطة، لا سيما بالنسبة للاجئين السوريين، ويقول: «هؤلاء أتوا من مناطق حرب وأي شخص يخرج من حرب يكون مصدوماً، ما يؤثّر بالتأكيد في مشاعرهم وعواطفهم وطريقة تصرفاتهم. لذلك هم في أمسّ الحاجة إلى الترفيه عن أنفسهم، وفي حاجة إلى هذه الأماكن لتفريغ المشاعر السلبية التي أحدثتها وتحدثها الحرب في نفوسهم حتى وهم بعيدون من وطنهم، وعدم إفراغها يعني كبتها وظهورها لاحقاً بطرق غير سوية كاللجوء إلى المخدرات والتدخين وافتعال المشكلات، خصوصاً بين المراهقين». وشاء الحظ أن تجد منى وأختاها وأطفالهم الذين جاؤوا من حمص قبل نحو عامين، منزلاً متواضعاً قريباً من الكورنيش في منطقة عين المريسة، ما أتاح لهم زيارة البحر يوماً بعد يوم. وتقول منى إنه لولا هذا الكورنيش «كانت ملّت روحنا»، مضيفةً أن «سورية مليئة بالمساحات العامة والخضراء وكنا معتادين قبل اندلاع الحرب على الخروج والتفسّح، لكن السنوات الأخيرة التي قضيناها في بلدنا قبل أن نلجأ إلى لبنان كانت أشبه بكابوس وبمثابة حبس إجباري، بقينا نحو سنة ونصف السنة في المنزل من دون الخروج منه. بعد كل ما اختبرناه من وجع وضيق، وجدنا هذا البحر هدية لا تثمّن، خصوصاً أنه مجاني ولا يرتّب علينا أي تكاليف، نشتري بعض السكاكر للأطفال ونجلس هنا، وهم يعتبرونه بيتهم بسبب الفرحة التي تنتابهم عندما نقصده». وتضيف: «لو كان منزلنا بعيداً بالتأكيد لما عرفنا البحر وكنا لزمنا منزلنا كما معظم السوريين المخنوقين بسبب عدم وجود أي مساحة عامة قريبة منهم يمكنهم التخفيف عن أنفسهم باللجوء إليها، ولأنهم حتى إذا أرادوا المجيء إلى هنا ستقف تكاليف المواصلات عائقاً أمامهم». افتقار للمساحات العامة افتقار بيروت للمساحات العامة أزمة يعاني منها اللبنانيون قبل السوريين، ويقول أيوب إن «الاتجاه عملياً في المدينة هو نحو البناء على حساب المساحات العامة القليلة التي بتنا نخسر أجزاءً منها يوماً بعد يوم من دون الالتفات إلى ما يمكن أن تسببه هذه الخسارة». ويوضح أن «غياب هذه المساحات يحدّ من الإندماج وبناء العلاقات الاجتماعية بين البشر بغض النظر عن طوائفهم وجنسياتهم، ويساهم في زيادة التفكك الاجتماعي وتعزيز الشعور بالخوف من الآخر». ففي منطقة الدكوانة مثلاً (شرق بيروت) التي لجأ إليها آلاف السوريين، كانت أعداد منهم تتجمّع وتلتقي في الشوارع وعلى الأرصفة بسبب غياب المساحات العامة. لكن هذه التجمعات تسببت بمشكلات اجتماعية بينهم وبين بعض أهالي المنطقة الذين تخوّفوا منها ما أدّى إلى صدام بين هؤلاء اللاجئين والبلدية التي أصدرت أمراً بمنع التجمعات، فاضطر كثر منهم إلى مغادرة المنطقة»، وفق أيوب. وتشكل المساحات العامة نقطة لقاء للاجئين. فسلطانة التي أتت إلى لبنان قبل ثلاث سنوات مع زوجها وأطفالها الخمسة من مدينة الباب قرب حلب، وجدت سكناً في شارع مدحت باشا المحاذي لحديقة الصنائع والذي سكنته عائلات سورية كثيرة، ما سمح لها أن تزور الحديقة باستمرار. وتقول: «بيتي صغير ولا أحد يزورنا فيه لأنهم يعلمون أنه ضيّق وبالكاد يتسع لي ولزوجي وأولادي، وفي معظم الأحيان ألتقي بمن يريد زيارتنا في هذه الحديقة وكذلك جيراني السوريين. هنا ترتاح نفسيتنا والأولاد يلعبون ويفرحون كثيراً عندما يحين وقت المجيء إلى الحديقة». أما حسن الذي يسكن في منطقة مار الياس، فيقصد أيضاً حديقة الصنائع كل أسبوع مشياً مع عائلته المكوّنة من خمسة أفراد إضافة إلى والدته. ويقول: «بيتنا صغير جداً لا يستطيع الأولاد اللعب فيه والفسحة هنا مجانية والمكان نظيف وملائم لهم وأستطيع أن أصل إليها مشياً من دون دفع تكاليف المواصلات إضافة إلى أننا نلتقي بأشخاص مثلنا والأولاد يتعرّفون إلى أولاد آخرين من عمرهم ويلعبون معهم». ويضيف: «كنا نذهب إلى البحر ولكنني تخلّيت عن ذلك منذ نحو سنة، فالوصول إلى الحديقة أوفر بالنسبة لي». ويشعر حسن بالراحة في هذه الحديقة الطبيعية لأنها تشبه المزرعة التي كان يسكن فيها وعائلته في ريف حلب قبل اندلاع الحرب التي حكمت عليه بالبقاء في لبنان ولم تترك له أي خيار آخر، ويقول: «أخذنا وقتاً للتأقلم، خصوصاً والدتي، لكن في النهاية لا بدّ من ذلك». الحفاظ على المساحات العامة، القليلة جداً في الأساس، وزيادتها لأن الموجود لا يلبّي حاجات السكان النفسية، ضرورة يجب الاهتمام بها بحسب أيوب، مؤكّداً أن «الزحمة اليوم مثلاً على الكورنيش تجعل لبنانيين وسوريين كثراً يترددون في ارتياده. فالأشخاص بدأوا يتضايقون من بعضهم بعضاً».