غادر الكتّاب الفلسطينيون، منذ زمن، «رواية القضية»، المرتبطة بمجموع بشري يسير إلى انتصاره، وانتقلوا إلى رواية، المصائر الفردية. انفتحوا على ضياعهم وشتاتهم، إذ النهار المرتبك يحجب ما سيأتي، وطريق كل لاجئ «مختلف عن طريق غيره». وانتهوا، في الحالين، إلى رواية قلقة متنوعة الأشكال. الفلسطيني سليم البيك أعطى في روايته الأولى «تذكرتان إلى صفورية» جديداً كتابياً يتميّز بلغة أدبية متحققة، كما لو كان روائياً طويل العهد، وبقدرة النفاذ إلى المأسوي الفلسطيني، بعيداً عن كتابات متكاثرة، تخطئ المأسوي وتنشغل بالحكايات. وما المأسوي هذا إلا الوجود المتفتّت الصادر عن رحيل إلى أمكنة متلاحقة تبدّد ما سبقه. أقام الوافد الجديد إلى الكتابة الروائية عمله على فكرة: الإقامة في اللاإقامة، التي تعبّر عن الخوف والألم. فما كان في «صفورية - فلسطين» رحل ووصل إلى مخيم يرسل باللاجئ إلى «دبي»، في انتظار أن يقصد الأبناء بلداً أوروبياً «رحيماً». والمحصلة وجود فلسطيني موقت لا يسمح بالأحلام التي تستدعي الاستقرار، ولا بتكامل الذكريات، إذ ما يفاجئ الفلسطينيين بكسر حكاياتهم. وصف الروائي الوضع الحزين بصيغة متقشفة «إما أن يكون فلسطينياً خارج مكانه وإما أن يكون في مكانه غير فلسطيني، حال الروائي ذاته الذي قُذف به من مخيم اليرموك إلى فرنسا. أدرج الروائي حكاية «الإقامة المستحيلة» في بنية روايته، متوسلاً عناوين تشير إلى الأمكنة المتحوّلة: «ماراً بتولوز»، عنوان الفصل الأول، الذي يحيل إلى مدينة فرنسية سقط عليها اللاجئ من دون إرادة منه، يتلوه «ماراً من اليرموك»، مستدعياً مخيماً في سورية أُفرغ من أهله بصمت يخالطه التواطؤ، يعقبه «ماراً مع ليا»، الفتاة الفرنسية التي أخذت مكان المخيم، وصولاً إلى «ماراً إلى صفورية»، عنوان الفصل الأخير الذي يعد اللاجئ، الذي حصل على جواز سفر فرنسي، بزيارة بلدة جده. ومع أن في عناوين الفصول ما يشهد على أمكنة متعددة، فإن ما هو دالّ فيها ماثل في صيغة الحال «ماراً»، التي تؤكد أن الفلسطيني «يمر» بالأمكنة ولا يقيم فيها، وأن الأزمنة تمر به ولا يختارها. ذلك أن الوجود المأسوي يختاره الطريق، ولا يختار الطريق، كما لو كان في مساره بعد إبداعي مقلوب عبّر عنه بيكاسو: يرسم الفنان ما عثر عليه، لا ما أراد أن يرسمه. يبدو الفلسطيني، الذي يمرّ ولا يقيم، مشبعاً بالانقسام: منذ أن فُرض عليه مرور بلا إقامة، أو إقامة قلقة ضعيفة الجدران، كما لو كان عليه أن يحمل مخيمه فوق ظهره، أو أن يتحوّل إلى مخيم له قدمان. ولعل القمع المتواتر الذي يضع اللاجئ خارج رغباته هو الذي أملى على الرواية استهلالاً دالاً: «لا يمكنك مسيو»، الذي لا تنقصه السخرية. فالفلسطيني «مسيو»، كما تقول الموظفة الفرنسية، لكنه «مسيو» يخضع إلى إرادة غيره، بل أنه لن يصبح «مسيو» إلا إذا تساقط شيء منه. يفقد اللاجئ اسمه القديم «يوسف»، ويستقر في اسم غريب عنه جوزيف، يخبر بأن من يمنح الغير اسماً له الحق في التصرّف به، ذلك أن في فعل التسمية قدرة وسلطة. ولن يختلف الأمر مع قهوة الصباح الفرنسية، التي تطرد القهوة القديمة وتملي على الغريب أن يتناول قهوة جديدة، وأن يتعلّم نطق اللغة الفرنسية بشكل صحيح، بعيداً عن «لغة سابقة» مرّت معه على أكثر من مكان. أضاء الروائي أحوال المنقسم الفلسطيني بكلمة مألوفة لدى الفلسطينيين هي: «الشنططة»، المشتقة من كلمة «الشنطة»، حقيبة السفر، التي يختصر فيها سفراً قسرياً له شكل المرور: «يسافر جيل كامل من الفلسطينيين كل ثلاثين سنة إلى بلد ما». ولعل التجربة الفريدة في مأسويتها، هي التي أملت على الفلسطيني، في سطور الرواية أن يكون «سورياً - جديداً» أو رسمت الثاني بمواد من تجربة الأول، حيث الفرار وغلظة موظف الحدود وطرق موحلة وقذارة المهرّبين وكلبيّتهم، ومفاجآت الطريق التي قد تنتهي بموت في العراء، وتضيء تجربة الأقدار ولعنة الأوطان الزائفة. ربما تكون رواية سليم البيك «تذكرتان إلى صفورية» من الأعمال الروائية القليلة، والقليلة جداً، التي رسمت الفلسطيني - اللاجئ في وعيه الشقي، ذلك الوعي الأسيان الذي يقرأ تجربته الفاجعة بكلمة «التشقق»، حيث «اللاإقامة»، تفرض على اللاجئ متواليات من «الشقوق» والتبعثر، إذ بين المكان الجديد وذكريات المكان السابقة مسافة، وبين مسار الأب والابن مسافة، وبين الابن وإخوته مسافة أكبر. لا شيء في العثار الفلسطيني لا يشبه غيره، باستثناء مهاجرين سوريين تعلموا «المرور»، بعد أن كانوا قد أدمنوا الإقامة في بلد الإقامة. نفذ سليم البيك من حال الفلسطيني الغريب إلى حال السوري المهاجر واستولد منهما ما يشبه «المعذّب الكوني». اقترب، في الحالين من «المغترب الكامل»، الذي لاذ بأضلاعه، واكتفى بعزلة مريرة، زاهداً بالقومي والديني والتاريخي والجغرافي والبلاغات الموروثة. يلوذ الفلسطيني، في نهاية المآل، «بالحب الوافد»، الذي لا يراهن عليه، وبأسطورة «جدّه» الذي أرشده إلى حقيقة فلسطين بحكايات كثيرة. حرّر سليم البيك روايته من عادات روايات فلسطينية، دارت حول الخير والشر، ونسج خطاباً عن الخسارة والحنين، وعن فلسطيني ممزّق يواجه العالم بالغضب، يرى الناس عراة يلتحفون بالبذاءة والعهر المستريح (وهي إشارة متكررة في الرواية). ولعل اكتفاء الفلسطيني بعالمه الداخلي هو الذي دعاه إلى «تخصيص لغة الكلام الفلسطيني»، إذ كلمة العودة تحيل على فلسطين وحدها، وصفورية بخاصة، وما خلاها زيارات، وكذلك كلمة «المكتبة»، التي تعني فلسطينياً الوطن والاستقرار. والفلسطينيون، تالياً، لا مكتبات لهم، ولا مكان «لمكتبة في بيت من دون مواطنة»، يقول الروائي، قبل أن يقرر أنه لا ذكريات متراكمة إلا بإنسان له وطن ومكتبة. بل أن «نحن» الفلسطينية، تشير لزوماً إلى صفورية وعائلة مبعثرة ومخيم رحل. تخصيص يعبّر عن مواجهة العالم والهروب منه وإعلان واسع عن الفقد والمفقود. زاوج كاتب الرواية بين الكلمات والإشارات ورسم عالم الفَقْد بشكل جديد. ارتكن غسان كنفاني في «رجال في الشمس»، الرواية الفلسطينية الوحيدة التي نفذت إلى جوهر المأساة، إلى تصوّر «العار»، حيث القبر الرخيص مآل من يفرّ من أرضه، وقرأ ربعي المدهون، في روايته «مصائر» المآل الفلسطيني بتصور: الندم العاجز، إذ الفلسطيني يعود إلى بلده بجواز سفر إنكليزي ويبكي ما مضى. استأنف سليم البيك اجتهادات سابقة، ووسع حدودها، آخذاً بتصور: التشقق، الذي يعني أن جزءاً من اللاجئ، يتساقط في الطريق، وأنه يبادل ما فقد بجزء مستعار، يصبح «فرنسياً» ويريد أن «يرجع» إلى فلسطين أجداده بجواز سفر فرنسي. وإذا كان القبر قدر الذي أخطأ دربه، فإن العزلة الباردة من حظ الفلسطيني المخذول، الذي يعود إلى فلسطين من طريق مطار بن غوريون. لم يكتب البيك رواية عن فلسطين، ولا عن أجيال اللاجئين، إنما كتب عن «مفرد فلسطيني»، لا يسيطر على طريقه، يحلم برؤية أرض لم يرها ويحاذر النسيان و «التشقق»، ويعيّن عالمه الداخلي مرشداً لعالمه الخارجي ومرجعاً. اشتق سليم البيك، بشكل غير مسبوق، واقع الفلسطيني العام من قلق عالمه الداخلي لفلسطيني مخذول، قبل أن يشتقه من الذكريات والإرادة المتلعثمة. أضاف سليم البيك إلى رواية الفلسطينيين نصاً نثرياً واسعاً، يجدّد الكتابة والثقافة معاً، يجسّر المسافة بين ما كان وما يكون.