عادت قضية المشاجرات الطالبية في الجامعات تطفو على السطح مجدداً، بعد انقطاع دام أكثر من عامين، إذ سجلت منظمات المجتمع المدني خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة قرابة 15 مشاجرة في عموم الجامعات الأردنية من حكومية وخاصة. جل هذه المشاجرات أخذ طابعاً عشائرياً، وما أن تسمع بمشاجرة في إحدى الجامعات، حتى يقترن هذا المشهد عند الكثيرين بسؤال معتاد «بين من ومن هذه المشاجرة؟». وما أن تصل المسألة إلى القضاء لمحاكمة المتسببين، تبدأ أطراف عشائرية ببذل الجهود لاحتواء الأمر، والإصلاح بين الفريقين المتخاصمين، وصولاً إلى الاتفاق خارج دور القضاء. وسريعاً ما يتبع ذلك انتشار صور «الجهة» التي استطاعت إتمام الصلح على وسائل التواصل الاجتماعي. ولكن ذلك يبقى نوعاً من معالجة أعراض المرض دون البحث في شكل جاد وحقيقي عن أسبابه ونبش العلة من جذورها، لتعود بعد فترة وجيزة وتسمع بمشاجرة أخرى وهكذا دواليك. منسق الحملة الوطنية من أجل حقوق الطلبة د. فاخر دعّاس يرى أن السنوات الثلاث الأخيرة شهدت إنزال عقوبات رادعة على من يدخل في شجارات طالبية، وذلك بعد أن أدى العنف الجامعي إلى مقتل عدد من الطلبة. ويقول: «لكن هذه العقوبات استطاعت أن تعالج قشور الظاهرة وليس جذورها، كما أن الكثير من هذه العقوبات يتم إلغاؤها لاحقاً بعيداً من أعين الإعلام». ويؤكد دعاس ل «الحياة» أن السبب الرئيس لهذه المشاجرات يكمن في غياب الوعي وتجذر مبدأ الواسطة والمحسوبية الذي أدى إلى تغليب الانتماء ما تحت الوطني (العائلي، العشائري، المناطقي...الخ) على الانتماء الوطني. إضافة إلى منع العمل السياسي داخل الجامعات ما يؤدي إلى فراغ لدى الطلبة يتم ملؤه بالنعرات الإقليمية والمناطقية». ويعتقد دعاس أن إدارات الجامعات حالها حال مجلس التعليم العالي والحكومة في شكل عام، لا ترغب بحل جذري لظاهرة العنف الجامعي لأن كلفة علاج هذه الظاهرة باهظة بالنسبة اليها. فعلاج هذه الظاهرة يعني وقف الفساد والمحسوبية في الجامعات ووقف الاستثناءات في القبول الجامعي، وهو ما يؤثر في شكل مباشر على مصالح الطبقة الحاكمة. كما أن محاربة هذه الظاهرة والقضاء عليها يعني رفع مستوى الوعي لدى الطلبة ما سيؤدي إلى تنامي الحركات المطلبية والاحتجاجية خصوصاً التي تقف ضد سياسات رفع الرسوم وخصخصة الجامعات الرسمية، لذلك فإن الجهات الرسمية لا يمكن أن تكون حقيقة مع القضاء على هذه الظاهرة. ويرى منسق الحملة الوطنية الحل في إعادة النظر في أسس القبول الجامعي وأنظمة التأديب بما يسمح بعودة العمل السياسي إلى الجامعات وتعزيز النشاطات اللامنهجية وإعطاء هامش من حرية العمل لدى الأندية الطالبية واتحادات الطلبة وإلغاء الصوت الواحد في انتخابات اتحادات الطلبة وإعادة النظر في دور الأمن الجامعي. يقول أستاذ علم الاجتماع والجريمة في جامعة مؤتة (وهي من الجامعات التي تشهد عنفاً طالبياً متكرراً) حسين محادين: في البداية لا بد من النظر إلى الجذور الاجتماعية والثقافية للسلوك العنيف سواء من قبل الطلبة أو غيرهم، ولعل أنماط التنشئة الاجتماعية والسلوكية التي يتشربها الأبناء من أسرهم إنما تعمّق لديهم مفهوم «المغالبة» أكثر من اهتمامهم بمفهوم الحوار السلمي. ويقول: «يفصح الآباء أو الأبناء الكبار عن فخرهم واعتزازهم حين يكون أبناؤهم أو أخوتهم هم الضاربون فيما ينتقصون منهم ويقللون من شأنهم عندما يكونون مضروبين». ويرى محادين إن هذه المفاهيم والأفكار والسلوكيات تنتقل إلى المجتمع وتطغى على خطاب الحياة فيه، وكأن هؤلاء الأفراد يعيشون في مجتمع لا مركزية أو سطوة للقانون فيه. ويتابع محادين في حديثه ل «الحياة» «لأن مفهوم مركزية الدولة في المجتمع ما زال في حاجة إلى تأطير وتعميق حضوره نجد أن إحساس الشباب بأن حقوقهم يجب أن تؤخذ مباشرة ولو بالعنف بعيداً من هيبة دولة القانون المفترض حضورها في شكل دائم. ومرد ذلك كله إلى أن المجتمع الأردني متحوّل أو في طور الانتقال من قيم البادية والريف والنظم العشائرية إلى حواف المدنية، إذ ما زال لدينا شوط كبير بحاجة إلى إنضاجه افراداً ومؤسسات». ويستطرد محادين قائلاً: «لا غرابة في أن تصبح علاقة الشباب متذبذبة في احترام وتمثيل قيم الحوار وإقصاء مفاهيم المغالبة لمصلحة مفاهيم وسلوكيات سلمية وتفاوضية، خصوصاً أن التأثيرات العشائرية والوساطات كلها تتدخل عندما تسعى الدولة إلى تطبيق القانون بصورة إلزامية بحجة أن الصلح سيد الأحكام، من دون أن ننسى أن كثيراً من الحقوق التي كان من الممكن أن يأخذها القانون قد تم التراجع عنها مقابل استرضاءات اجتماعية، وبمباركة ضمنية من مؤسسات الدولة، وينطبق هذا الواقع على تأثيرات المجتمع القوية على حرمة الجامعات فكراً وإدارةً وأنظمةً». ويرى محادين أن التشخيص الدقيق لمثل هذه الحالات (المشاجرات الطالبية) من شأنه أن يساعد صنّاع القرار في وضع المعالجات المناسبة. مشيراً إلى أن هناك تناقضاً يتمثل في تطبيق القانون والأنظمة مقابل تنشئة اجتماعية تعتد بالفروسية وبالولاءات الفرعية.