أهم رسالة أرادت إسرائيل إبرازها خلال احتفالاتها، هذه السنة، في ما تطلق عليه «يوم القدس»، وهو تاريخ احتلالها، أن هذه المدينة المقدسة ستبقى موحدة والعاصمة الأبدية للدولة العبرية. قد تكون الصدفة هي التي جعلتها تتزامن مع مبادرات تحريك العملية السلمية، الفرنسية والمصرية والعربية، ولكنها تبدو وكأنها الرد الاسرائيلي على كل هذا الحراك. ان تبقى القدس العاصمة الأبدية والموحدة للدولة العبرية، يعني ضرورة زيادة عدد سكانها والمستوطنين فيها وحض اليهود على الهجرة اليها، وهذا ما تفعله اسرائيل بصمت مستغلة الأحداث التي تشهدها المنطقة والانشغال فيها وفي القضايا الدولية المختلفة. إسرائيل تخطط وتنفذ حتى تضمن تحقيق أهدافها في المدينة. والناحية الديموغرافية بند مهم في ذلك. وهذا ما كان الأكثر تفاخراً للاسرائيليين في الاحتفالات المسماة «يوم القدس». المعطيات التي روجت لها اسرائيل في هذا اليوم، بالاعتماد على دائرة الإحصاء المركزية، تقول إن عدد سكان القدس ازداد منذ حرب 1948، عشرة أضعاف وبالتالي فإن القدس هي أكبر المدن الإسرائيلية وأكثرها سكاناً، حيث وصل عدد سكانها في مطلع 2016 الى 870 الف نسمة تقريباً، ما يعني أن كل عاشر اسرائيلي هو مقدسي. وتقول هذه الاحصاءات إن عدد اليهود في المدينة يبلغ 548 الف نسمة (63 في المئة)، وعدد العرب 322 الف نسمة (37 في المئة). وتعتبر القدسالمدينة الثانية من حيث نسبة الجيل الشاب، بعد بني براك، حيث يشكل الأولاد والشبان في المدينة نسبة 50 في المئة من السكان (430 الف نسمة) بفضل نسبة الولادة العالية لدى المتدينين والعرب. لكن مقابل هذه المعطيات يظهر معطى يقول إن القدس تعتبر إحدى ثماني مدن كبيرة تعاني من الفقر، اذ يصل متوسط الدخل فيها الى 12.164 شيكل للأسرة، بينما يقدر مصروف الأسرة بنحو 11.528 شيكل، ما يعني انه مقابل العدد القليل من الأغنياء، الذين يتقاضون مداخيل عالية، غالبية الناس يتقاضون مداخيل لا تسد الرمق. ومع هذا، يستدل من استطلاعات الرأي بين المقدسيين ان 89 في المئة من فئة 20 سنة وما فوق يشعرون بالرضا عن حياتهم في القدس ويشعر 88 في المئة من سكان القدس بالرضا عن اوضاعهم الاقتصادية، بينما تصل نسبة الرضا في اسرائيل، في شكل عام، الى 59 في المئة. هذه المعطيات تطمئن الى حد ما مهندسي السياسة الاسرائيلية تجاه القدس لكن الحكومة برئاسة الثالوث اليميني المتطرف نتانياهو- ليبرمان- بينيت، لا تكتفي بكل ما وصلت اليه القدس من عمران وتطوير واستيطان فاحش، بل أرادت ان تكون لها حصة الأسد من موازنات التطوير. ومن أجل أن يستكمل نتنانياهو حملة التضامن مع القدس كعاصمة موحدة لإسرائيل عقدت جلسة احتفالية خاصة في يوم القدس في المدينة، ليعلن من هناك أن حكومته صادقت على موازنة تطوير للمدينة تصل كلفتها الى 850 مليون شيكل. وتم تحديد استثمار هذه الموازنة في خمسة محركات للنمو: الاقتصاد، والسياحة، والصناعة المتقدمة، والاكاديميا، وتطوير القطاع التجاري وجودة حياة السكان. هذه الموازنات المكرسة للقدس تهدف الى الحفاظ على الصورة الحالية للمدينة من حيث وضعها السكاني، بل جعلها مركزاً اساسياً للمتدينيين والمتطرفين. فالوضعية الحالية في القدس تشير الى ان الطلاب المتدينين، ومنذ العام 1999، يشكلون أكثر من نصف طلاب المدارس اليهودية. ويوجد اليوم اكثر من 100 الف طالب متزمت في القدس، مقابل 63 الف طالب علماني ومتدين قومي. الإحباط سيف دو حدين هذه السنة لم تتغير المعطيات كثيراً بالنسبة الى الفلسطينيين في القدس، لكن ما ميز الوضع أن المدينة تعيش اليوم مرحلة ما بعد انتفاضة السكاكين، وفي كل مرة تتم فيها مناقشة دوافع توجه الشباب الفلسطيني الى حمل سكين لطعن اسرائيلي يجري الحديث عن حال إحباط لدى الفلسطينيين بسبب سياسة الاحتلال والقتل وتضييق الخناق التي تمارسها اسرائيل بحق السكان وتهجيرهم في شكل قسري. لكن الاحباط لم يدفع الشبان الفلسطينيين الى الهجرة وترك منطقة سكناهم للسكن في أماكن أخرى هرباً من قساوة الحياة، بل ان هناك من رد بالتحدي، وبالسكاكين. أكثر من ثلاثين في المئة من فتية القدس يتسربون من المدارس بسبب النقص في غرف التدريس، وقسم منهم يعمل في مجال الخدمات، والقسم الآخر عاطل من العمل (في العامين الأخيرين سجل انخفاض بنسبة تقارب 20 في المئة في مستوى تشغيل المواطنين العرب من سكان القدسالشرقية). هذه الوضعية تغذي لديهم الشعور، بأنه ليس لديهم ما يخسرونه. رقم قياسي في البناء الاستيطاني نير بركات، رئيس بلدية القدس، اليميني الذي سجل في تاريخ إشغاله هذا المنصب كأول رئيس لبلدية القدس يسير في شوارعها ويحمل سلاحاً، اختار ان يكون في احتفالات اسرائيل ب «يوم القدس»، منبعاً للتفاؤل والأمل وحض الإسرائيليين للهجرة الى المدينة المقدسة والسكن فيها. وبركات يحظى بدعم الشارع اليميني، وقد ارتفعت اسهمه بينهم خلال الأحداث الأمنية الأخيرة، التي شهدتها القدس، اذ انه سار في شوارع القدس مع زمرة من المتدينين والمتطرفين يشهرون الى جانبه سلاحهم ويهددون. ونير هذا لم يكتف بإشهار سلاح بل طالب سكان القدس بحمل الأسلحة ودعا الى وضع حواجز على مداخل أحياء القدسالشرقية، وعزل الفلسطينيين وطردهم: «لقد أثبتنا لأعدائنا بأنهم طالما حاولوا إيذاءنا، فإن روح نشاطنا ونمونا ستتسع. لقد عادت القدس، خلال السنوات الأخيرة، إلى التحول إلى حالة أكثر اتصالاً بالواقع وبجميع قطاعات الشعب الإسرائيلي، هذا الشعب الذي يحس بأن له حصة في القدس»، بهذه الكلمات اختار بركات ان يفتتح احتفالاته في ما يسمى «يوم القدس»، وأضاف: «إن الحركة الصهيونية ترفع، مجدداً، رأسها في القدس، وما من أخبار أكثر بعثاً للسرور من هذه. لقد عملنا كثيراً من أجل وقف الهجرة من القدس وتشجيع الهجرة اليها. إنني فرح بأن هذا العام تمّ تسجيل توازن في الهجرة المعاكسة، التي امتازت بها القدس خلال السنوات الست الماضية. إن هذا كله لا يحدث من دون سبب. فالعشرات من الحركات الشبابية، من المبدئيين وذوي العزم، يملأون أحياء المدينة ويقومون بتحقيق الحلم الصهيوني». وأعتبر أن القدس هي عاصمة المبادرات التجارية، وقد تمت مضاعفة عدد المبادرات خلال العامين الأخيرين من 250 إلى 500 شركة. حيث تم بناء الحي التجاري الجديد على مدخل المدينة، الذي يضم منطقة صناعية كبيرة مخصصة للتكنولوجيا العالية، وهو ما سيضيف عشرات آلاف أماكن العمل الجديدة. وفي مجال المواصلات تمر المدينة بثورة كبرى مع بناء خط القطار من مركز المدينة، إلى جانب شبكة جديدة من القطارات الخفيفة، التي باتت الآن في مرحلة متقدمة من التنفيذ. القدس، وفق بركات «هي منبع الحصانة القومية لدولة إسرائيل بأسرها»، يقول للإسرائيليين ويدعوهم الى إطلاق صوتهم وبوضوح والقول: «القدس، عاصمة إسرائيل لن تتقسم ولن تصاب بضرر. إن استطلاعات الرأي لا تظهر، عبثاً، كون القدس هي المدينة التي تحوز على رضا أغلب سكانها، من بين مدن إسرائيل. في يوم القدس، وأكثر من ذي قبل، فإن كل واحد منا، سواء كان مقدسياً أم لا، بإمكانه أن يقول بفخر كبير: أنا مقدسي! عيد سعيد!». كلمات بركات هذه والمشاريع الاستيطانية المتواصلة والموازنات، التي وفرتها وتوفرها إسرائيل لضمان استمرار البناء والتطوير في القدس، تسير في اتجاه واحد. بناء لليهود فقط. وفي هذا تكريس لسياسة التفرقة العنصرية، الأبارتهايد على الطريقة الاسرائيلية. فالأحياء اليهودية تكبر وتتطور وتمتد حول القدسالشرقية، بينما الأحياء العربية تواصل معاناتها: ضيق يمنع التطور وحصار اقتصادي وبنية تحتية منهارة وأزمة سكن خانقة وفقدان التواصل مع بقية البلدات الفلسطينية في الضفة الغربية وجدار عازل وفوق كل هذا احتلال غاشم، قمعي ومُضطهِد بلا رحمة. وعليه، فإنه أمام دعوة بركات الاسرائيليين للصراخ والقول انا مقدسي عيد سعيد، يُسمِع الفلسطيني صرخة أخرى مؤلمة: «غيروا تعاملكم مع القدس حتى لا يأتي يوم ونصرخ – نحن العرب أجمعين: «كانت لنا قدس».